القانون الخاصالمكتبة القانونية

الجرائم العسكرية الصرفة المتّصفة بالجناية-الأستاذ أسامة نور الدين باسطي

الحمد لله وحده،

إنّ أوّل ما يلاحظ عند التّعرض إلى مسألة التّجريم في إطار مجلةّ المرافعات والعقوبات العسكريّة هو أن المشرّع لم يتحدّث عن المخالفة كوصف للجريمة العسكريّة بحيث خالف القاعدة المعروفة في القانون الجزائي العام وذلك التّصنيف الكلاسيكي الذي يصنّف الجرائم إلى جنايات ومخالفات وجنح، وهذا ربّما يعزّز وصف التّشدّد و الطّابع الزّجري الرّاجع على الأغلب إلى طبيعة العمل في إطار المجال العسكري وخصائصه ومتطلّباته، التّي تؤدّي إلى التشدّد في أساس التجريم، لكنّ ذلك لا يجب أن يؤثّر على مسألة الضّمانات المتعلّقة بالمتّهم في إطار جريمة ما، يُحاكمُ من أجلها، وما يدعم هذا الطّرح بخصوص التشدّد، هو أنّ المشرّع صلب أحكام مجلّة المرافعات والعقوبات العسكريّة قد خصّص جانبا كبيرا من الفصول التّي اهتمّت بالجرائم العسكريّة سواء منها المتّصفة بالجنحة أو المتّصفة بالجناية حيث امتدّت من الفصول 66 إلى 131 من المجلّة المذكورة، وعلى هذا الأساس نلاحظ تعدّد وتنوّع الجرائم العسكريّة الصّرفة والمتّصفة بالجنايات، وعليه سنقوم بمعالجة الإشكال الآتي : ما مدى تكريس ضمانات المتّهم الموضوعيّة في إطار الجرائم العسكريّة الصّرفة المتّصفة بالجناية ؟ وهذا ما يدفعنا إلى البحث في جنايات الإخلال بالواجبات والتّراتيب العسكريّة (الفصل الأوّل) وكذلك جنايات الاعتداء على المصالح العسكريّة (الفصل الثّاني) دون الإغفال بكلّ تأكيد عن جانب الضمّانات ومدى توفّره من عدمه.  

الفصل الأوّل :   جنايات الإخلال بالواجبات والترّاتيب العسكرّية   

لئن تعدّدت مواضع التّجريم بخصوص هذا الصّنف من الجنايات والذّي يجد أساسه في طبيعة الفعل المجرّم، حيث يتعلّق بمسألة الانضباط وما يتطلّبه من امتثال للقوانين والتّراتيب في إطار ما تفرضه متطلّبات الحياة العسكرية[1]، وفي هذا الصّدد نجد جناية التفصّي من الخدمة العسكريّة (فقرة أولى)، أيضا جناية الإخلال بواجب الطّاعة (فقرة ثانية) وأخيرا جناية التّسليم (فقرة ثالثة). 

الفقرة الأولى  : جناية التفصّي من الخدمة العسكريةّ 

إنّ جناية التفصّي من الخدمة العسكرية يقصد بها أساسا التهرّب والامتناع عن أداء الواجب العسكري وبالتّالي الخدمة العسكريّة أو ما يعرف بالجنديّة، وبالتّالي ورجوعا إلى مجلّة المرافعات والعقوبات العسكريّة نجد مستويين يمكن معهما قيام جناية التفصّي من الخدمة العسكريّة، أوّلهما الجناية المتعلّقة بالفرار من الخدمة، وثانيهما جناية التّشويه قصدا، وهو ما سنعرضه لاحقا .

أ. جناية الفرار من الخدمة العسكريّة 

إنّ جناية الفرار تختلف باختلاف مرتكبها ومكانها وكذلك زمانها والجهة التّي تمّ الفرار إليها، حيث ترتبط في حالات معيّنة بظروف تشديد ترتقي بالفعل المرتكب وهو الفرار من صنف أو مرتبة الجنحة إلى مرتبة الجناية[2]، غير أن جناية “الفرار إلى العدوّ” تبقى أخطر جنايات الفرار اعتبارا للعقوبة التّي يسلّطها المشرّع في هذه الحالة وهي الإعدام وفق ما نصّت عليه أحكام الفصل 69 م.م.ع.ع والذّي تمّ تنقيحه بمقتضى الفصل 8 من القانون عدد 23 لسنة 1989 والمؤرّخ في 27 فيفري 1989، على أنّ صور الفرار على معنى هذا الفصل تدخل كلّها في صنف الجنايات .

وما تجدر الإشارة إليه في هذا الصّدد هو أنّ المشرّع يفرّق بين ثلاث حالات للفرار وفق أحكام الفصلين 69 و 70 م.م.ع.ع، تندرج كلّها في صنف الجناية، وهي حالة الفرار إلى العدوّ المنصوص عليها بالفقرة الأولى من الفصل 69 م.م.ع.ع، وحالة الفرار أمام العدوّ المنصوص عليها بالفقرة الثّانية من ذات الفصل، وأخيرا حالة “الفرار بمؤامرة” والتّي نظّمتها أحكام الفصل 70 م.م.ع.ع، والذّي نقّحت فقراته الثّانية والثّالثة بمقتضى أحكام الفصل 8 من القانون عدد 23 لسنة 1989 والمؤرّخ في 27 فيفري 1989.

 إنّ حالات الفرار الثّلاثة المذكورة تتجاوز مجرّد خرق لقواعد الانضباط العام العسكري وتمتدّ إلى الاعتداء على سيادة الدّولة وكيانها وكرامتها[3].

و”الفرار بمؤامرة” عرّفته الفقرة الأولى من الفصل 70 م.م.ع.ع حيث جاء فيه “يعدّ فرارا بمؤامرة كلّ فرار يحصل من عسكريّين فأكثر بعد اتّفاقهم عليه”. لكن بالنّظر إلى هذه الحالات الثّلاث، نلاحظ أنّ جناية الفرار إلى العدوّ تبقى أخطرها، وما إقرار الإعدام كعقوبة لها إلاّ دليل واضح على ذلك، غير أنّ المشرع في هذه الحالة لم يتعرّض لأركان هاته الجريمة، وهو ما نجده في الفقه، حيث أنّ الفرار إلى العدوّ هو ترك العسكريّ لوحدته أو قطعته العسكريّة ليلتحق بصفوف العدوّ[4] سواء كان ذلك داخل البلاد أو خارجها، وهذا ما يخالف حالة الفرار أمام العدوّ أين فسّرتها أحكام الفقرة الأخيرة من الفصل 70 م.م.ع.ع، حيث جاء تفسير عبارة “أمام العدوّ” كالآتي: هو العسكري الذّي في مواجهة  العدوّ بطريق الاشتباك أو بمناسبته، وبناءا على ما تقدّم كان أجدر بالمشرّع أن يتوخّى التّدقيق اللاّزم ضمن هذا الإطار حتّى يكون النصّ أكثر وضوحا، وبالتّالي تحديد أركان قيام الجريمة، خاصّة إذا ما سلّمنا بخطورتها من ناحية، وخطورة وشدّة العقوبة المقرّرة لها، من ناحية أخرى والتّي تتسلّط على المتّهم في هذا الخصوص، سيما وأنّ المشرّع صلب أحكام مجلّة المرافعات والعقوبات العسكريّة لم يعرّف “العدوّ” رغم أنّه صلب منطوق الفصل 55 م.م.ع.ع قد تعرّض إلى أنّ لفظ أو “تعبير العدوّ” يشمل أيضا العُصَاة المُسلّحين، وما يمكن أن يُطرح في هذا الصّدد هو هل أنّ الأشخاص الذّين انتفضوا إبّان ثورة 14 جانفي 2011، وتسلّحوا بالعصيّ والحجارة وبعض الآلات الحادّة وانتهجوا العصيان، هل يعتبرهم المشرّع الجزائي العسكري “عدوّا” باعتبارهم عُصاة ومسلّحين في ذات الوقت ؟ 

هذا ما  يستدعي بعض المراجعة في هذا الصّدد حتّى يتلافى المشرّع كلّ التّأويلات التّي قد تحيد بالنصّ عن المقصد الأصلي له وبالتّالي يرفع عنه كلّ التباس .

ب . جناية التشّويه قصدا 

إنّ جناية التّشويه قصدا تجد أساسها ضمن أحكام الفصل 113 م.م.ع.ع الذّي تمّ تنقيحه بموجب الفصل 8 من القانون عدد 23 لسنة 1989 والمؤرّخ في 27 فيفري 1989، وحيث ورد هذا الفصل ضمن القسم السّابع من الباب الثّالث وعنوانه “التّشويه قصدا”، والمراد بذلك العسكري الذّي يلحق بنفسه عمدا، تشويها يجعله غير صالح للخدمة العسكريّة سواء كان ذلك مؤقّتا أو مؤبّدا وذلك وفق أحكام الفقرة الأولى من الفصل المذكور أعلاه، لكن إلى هنا لا ترتقي هاته الجريمة إلى مرتبة الجناية ولكنّ أحكام الفقرة الثانية، أوردت ظرف تشديد ترتقي معه الجريمة إلى مرتبة الجناية وهو أن يكون العسكريّ قد ارتكب هذا الفعل “أمام العدوّ” وتكون عقوبته الإعدام، كما أضافت الفقرة الثّالثة من ذات الفصل ظرفا تشديديّا آخر وهو حالة ارتكاب فعل التّشويه العمد “في منطقة أُعلنت فيها حالة الحصار أو أمام متمرّدين”، أين تكون العقوبة السّجن مدّة 10 أعوام، كما أنّ المشرّع في ذات الفصل قد أقرّ نفس العقوبة سواء في حالة القيام بالفعل أمام العدوّ أو في الحالة الثّانية، وذلك بالنّسبة للمشارك إذا كان عسكريّا، وفق منطوق الفقرة الرّابعة من الفصل 113 م.م.ع.ع.

 وبناءا على ما تقدّم يكون المشرّع الجزائي العسكريّ، قد خالف القواعد الجزائيّة العامّة والتّي لا تُرتّب عقابا للشّخص الذّي يحدث بنفسه تشويها أو يقدم على الانتحار[5]، ولكنّ الإطار يختلف في الميدان العسكريّ بحيث يكون العسكريّ في وضع الدّفاع عن البلاد وإضراره بنفسه هو إضرار بصفة غير مباشرة بأمن الوطن .

على أنّ المشرع وفي الفقرة قبل الأخيرة من الفصل 113 م.م.ع.ع قد أدرج ظرفا تشديديّا آخر يتعلّق بصفة العسكريّ في حدّ ذاته، في حالة أو صورة المشاركة، حيث أقرّ عقوبة مضاعفة إذا كان المشارك إمّا طبيبا أو صيدليّا، عسكريّا أو مدنيّا كان، وإمّا ضبّاط عسكريّين مكلّفين بالشّؤون الصحيّة .

الفقرة الثاّنية :   جنايات الإخلال بواجب الطاعة 

إنّ جنايات الإخلال بواجب الطّاعة مردّها الأساسي هو التّسلسل في الرّتب العسكريّة وإطارها العام هو “القانون الأعلى العسكريّ”[6]، بما أنّ الطّبيعة التّنظيميّة للجيش متمثّلة في تنظيم تسلسلي هرمي يضمّ رجالا مسلحّين[7]، وباعتبار طبيعة العمل العسكريّ فإنّ قواعد الانضباط تتطوّر بتطوّر التّنظيم العسكريّ وهو ما يفسّر إلغاء العمل بالتّعليمات الوزاريّة عدد 8344 بتاريخ 10 جوان 1971 وتعويضها بالمقرّر عدد 2213 لسنة 2002 والمؤرّخ في 23 جانفي 2002 والمتعلّق بضبط قواعد الانضباط العام[8].

وبالرّجوع إلى أحكام مجلّة المرافعات والعقوبات العسكريّة يمكن أن نركّز بحثنا في هذا الصّدد على أربعة عناصر تقوم معها حالات جناية الإخلال بواجب الطّاعة، أوّلها الامتناع عن إطاعة الأوامر أو مخالفة التّعليمات (أ)، ثانيها، الاعتداء على الرّؤساء وتعييرهم (ب)، ثالثها العصيان العسكري(ج)، وآخرها تجاوز حدود السّلطة (د) في إطار العمل العسكريّ الخاضع لقواعد الانضباط العام الذّي يميّز التّنظيمات العسكريّة .

    أ. جناية الامتناع  عن إطاعة الأوامر ومخالفة التّعليمات العسكريّة 

يمكن للعسكريّ الذّي يمتنع عن إطاعة الأوامر أو أن يخالف التّعليمات العسكريّة أن يجد نفسه حيال جريمة عسكريّة ترتقي إلى مرتبة الجناية، وذلك على أساس الفصل 79 م.م.ع.ع حيث تعرّض المشرّع إلى جناية الامتناع عن إطاعة الأوامر بالفقرات “ج” و “د” و”هـ” من الفصل المذكور، و وصف الجناية الملحق بالجرائم المذكورة يستمدّ أساسه من العقوبة المقرّرة لتلك الجريمة، حيث تراوحت بين الستّ سنوات سجنا والإعدام، وذلك في الصّور المحدّدة ضمن الفقرات المذكورة أعلاه، والتّي تتكوّن من حالة الحرب أو منطقة أعلنت فيها حالة الحصار وحالة التجمّع أو صدور الأمر إلى السّلاح أو كان الفاعل مسلّحا، وحالة مجابهة العدوّ أو المتمرّدين وحالة الامتناع عن إطاعة أمر بالهجوم على العدوّ أو المتمرّدين .

إلى هذا الحدّ يبدو أساس التّجريم معقولا رغم خطورة العقوبات المسلّطة وإذا كان الهدف من ذلك المحافظة على التّنظيم العسكريّ المحكم والمتماسك والقائم على التّسلسل في الرّتب وإطاعة الأوامر، فإنّ الإشكال المطروح حول هاته الأخيرة، هو أنّها جاءت في صيغة الإطلاق ممّا يعني أنّها تجري على إطلاقها لذلك رأى بعض الفقهاء[9] ضرورة التّنصيص على الشّروط الواجب توفّرها في الأمر الصّادر للعسكريّ باعتباره مأمورا[10]، ويجب أن تكفل له الضّمانات الأساسيّة قبل تجريمه بحيث يتحوّل من مُطبِّق للأوامر إلى متّهم على معنى أحكام اتّفاقيّة جنيف لسنة 1949 التّي تخصّ معاملة الأسرى والجرحى والمدنيّين زمن الحرب، وكذلك نظام المحكمة الجزائيّة الدوليّة الذّي أقرّ مسؤوليّة العسكريّ المرتكب لجرائم قتل وتعذيب وأعمال عنف، رغم تلقّيه أمرا من رؤسائه[11]، وهذا ما يطرح بصفة جليّة مسألة ضمانات المتّهم في جانبها الموضوعي في إطار مجلّة المرافعات والعقوبات العسكريّة، خاصّة وأنّ هاته الأخيرة إضافة إلى جناية الامتناع عن إطاعة الأوامر، قد أقرّت جناية مخالفة التّعليمات العسكريّة، والتّي نظّمتها أحكام الباب الثّالث ضمن قسمه السّادس من المجلّة تحت عنوان “مخالفة التّعليمات العسكريّة” حيث تتكوّن من مخالفة التّعليمات العسكريّة جناية، لكن كان أحرى بالمشرّع توخّي الدقّة والوضوح في تحديد فحوى الأوامر والتّعليمات وجعلها مؤسّسة على أسس مشروعة وشرعيّة حتّى يكفل للمتّهم في إطار هاته الجنايات ضمانات موضوعيّة تتعلّق بأساس التّجريم .

ب  . جناية الاعتداء على الرؤساء 

لقد أقرّ المشرّع هاته الجريمة ضمن أحكام الفصل 84 م.م.ع.ع حيث ترتقي هاته الجريمة إلى صنف الجناية باعتبار العقوبة المقرّرة لها وهي ستّة أعوام، وحيث نصّ الفصل المذكور على ما يأتي “يعاقب بالسّجن مدّة ستّة أعوام العسكريّ الذّي يتعمّد الاعتداء  بالعنف أو التّهديد به على آمره أو من كان أعلى منه رتبة في أثناء الخدمة أو بمناسبتها ويحكم بنفس العقاب إذا وقع الفعل على العسكريّين المكلّفين بحراسة الآمر أو الأعلى رتبة .”

رغم تميّز هذه الجريمة العسكرية[12] باعتبارها لا تقع إلاّ من عسكريّ ضدّ عسكريّ آخر وكذلك في إطار الخدمة العسكريّة، إلاّ أنّ المشرّع لم يهدف إلى حماية الأشخاص من خلال هذا التّجريم  وإنّما يهدف إلى حماية القواعد الانضباطيّة والتّسلسل العسكريّ في الرّتب، وهو ما يفسّر تشديد العقاب في هاته الجريمة بما يرتقي معه إلى مرتبة الجناية، لكن يبقى إشكال ضمانات العسكريّ المتّهم في هذا الإطار حيث يعتبر العقاب المسلطّ عليه في صورة الحال إجحافا في حقّه بحيث لا نجد تكريسا لمبدأ التّناسب بين الفعل و العقاب.

ج  . جناية العصيان العسكري 

رغم تعرّض المشرّع الجزائي العسكريّ في إطار مجلّة المرافعات والعقوبات العسكريّة إلى جريمة العصيان إلاّ أنّه لم يقم بتعريف العصيان في حدّ ذاته وإنّما تعرّض إلى الحالات التّي تعتبر عصيانا، وبالتّالي تقوم معها جريمة العصيان العسكري، ولقد عدّدت أحكام الفصل 80 م.م.ع.ع حالات قيام جريمة العصيان العسكريّ، مع الإشارة إلى أنّ المشرّع قد نقّح هذا الفصل بمقتضى الفصل 8 من القانون عدد 23 لسنة 1989  المؤرّخ في 27 فيفري 1989. 

وتتراوح العقوبة في صورة قيام جريمة العصيان المتّصفة بالجناية من ستّة أعوام إلى حدّ الإعدام وذلك عملا بأحكام الفقرات 5-6-7-10-11-12  من نفس الفصل[13] وضمن ذات الإطار يكون المشرّع إزاء العمل على حماية التّنظيم العسكريّ وضمان تطبيق قواعد الانضباط العام دون التّفكير بنفس الأهميّة في ضرورة توفير الضّمانات اللاّزمة للمتّهم في إطار جريمة العصيان العسكري المتصلّة بالجناية .

د  .  جناية تجاوز حدود السلطة 

إنّ تجاوز حدود السّلطة لا يمكن أن يُتّهم به عسكريّ لا سلطة له، وبالتّالي يكون أشخاص تجاوز حدود السّلطة بالضّرورة عسكريّين ذوي رتب سامية، مكّنهم المشرّع من سلط معيّنة في إطار العمل العسكريّ، وما هو حريّ بالذّكر أنّ المشرّع العسكريّ، قد خصّ تجاوز حدود السّلطة بالقسم الثّالث والذّي جاء تحت نفس العنوان المذكور والمندرج ضمن الباب الثّالث من الكتاب الثّاني من مجلّة المرافعات والعقوبات العسكريّة، وضمن هذا الإطار تعرّض المشرّع إلى جريمة تجاوز حدود السّلطة، المتّصفة بالجناية في الفقرة الثّانية من الفصل 96 م.م.ع.ع والمنقّح بمقتضى أحكام الفصل 8 من القانون عدد 23 لسنة 1989  والمؤرّخ  في 27 فيفري 1989، حيث ترتقي الجريمة المذكورة إلى مرتبة الجناية، في صورة استعمال العنف بناءا على مباشرة العسكريّ لتسخير ليس له إذن به أو ليس من مشمولاته، ويكون العقاب بستّة أعوام وهو أساس وصف الجناية، أمّا في الصّورة المقرّرة بالفصل 97 م.م.ع.ع والمنقّح بمقتضى نفس القانون المذكور أعلاه فتصل العقوبة إلى عشرة أعوام وفق أحكام نفس الفصل في فقرته الأولى.

وللإشارة فإنّ جناية تجاوز حدود السّلطة جناية خطيرة لما يمكن أن يتبعها من آثار وهو ما يفسّر ارتقاء المشرّع بها في بعض الصّور إلى مرتبة الجناية العسكريّة .

الفقرة الثاّلثة :    جناية التسّليم 

لقد نظّم المشرّع التّسليم صلب أحكام مجلّة المرافعات والعقوبات العسكريّة وذلك بأن خصّه بالقسم التّاسع من الباب الثّالث ضمن الكتاب الثّاني، حيث نظّمته أحكام الفصلين 115 و116 م.م.ع.ع .

وبالرّجوع إلى ما ورد بالفصل 115 م.م.ع.ع نلاحظ أنّ قيام جناية التّسليم يقتضي ضرورة توفّر أركان هاته الجريمة، إذ نصّ الفصل المذكور على ما يأتي: “يعاقب بالإعدام مع التّجريد العسكريّ كلّ آمر أو حاكم سلّم للعدوّ الموقع الموكول إليه بدون أن يستنفذ جميع وسائل الدّفاع التّي لديه وبدون أن يعمل بكلّ ما يأمر به الواجب والشّرف .”

وبناء عليه تكون أركان جريمة التّسليم قائمة على ثلاثة أسس، أوّلها متعلّق بمرتكب الجريمة في حدّ ذاته وثانيها بالفعل المادّي للجريمة أمّا ثالثها فيخصّ موضوع الجريمة .

فبخصوص مرتكب الجريمة اشترط المشرّع ضمن أحكام الفصل 115 م.م.ع.ع أن يكون “آمر” أو “حاكم” وإن عرّف المشرّع “الآمر” ضمن أحكام الفصل 58 م.م.ع.ع[14]، فإنّه لم يعرّف “الحاكم” الذّي عرّفه بعض الفقهاء[15] على أنّه الشّخص المعيّن لقيادة موقع عسكريّ وتولّي أمور الدّفاع عنه، أمّا بخصوص الفعل المادّي الذّي تتكوّن منه الجريمة فهو فعل التّسليم أي تسليم الموقع من طرف “الآمر” أو “الحاكم”، وإن تعرّض المشرّع للتّسليم إلّا أنّه لم يعرّفه على أنّ الفقه[16] عرّفه بكونه “تمكين العدوّ من حيازة الموقع ووضعه تحت تصرّفه”، ولكن الإشكال العملي المطروح هنا هو في صورة ما إذا كان الفعل سلبيّا، أي ترك الموقع وليس إيجابيّا أي تسليمه، بالرّغم من كون الفعلين قد يؤدّيان إلى نفس النّتيجة[17].

بقي موضوع التّسليم والمقصود به الموقع الذّي يكون تحت تصرّف  “الآمر” أو “الحاكم” ويمكن أن يكون “حامية أو محلاّ أو مركزا أو مدينة أو  قرية أو حصونا أو منشآت أو موانئ أو قطعة أرض”[18]، لكن يبقى استنفاذ جميع وسائل الدّفاع الممكنة والمتاحة أمرا ضروريّا، باعتبار أنّ ذلك يمثّل شرطا أساسيّا وجوهريّا لإدانة “الآمر” أو “الحاكم” العسكريّ وتوجيه التّهمة إليه وتجريمه .

على أنّه إلى جانب جريمة تسليم الموقع فقد نصّ المشرع على جريمة التّسليم في ساحة القتال والتّي يرتكبها “الآمر” وترتقي إلى مرتبة الجناية باعتبار كون العقوبة المقرّرة لها هي الإعدام وفق ما جاءت به أحكام الفقرة الأولى من الفصل 116 م.م.ع.ع والعدد 1 من نفس الفصل .

على أنّ ذلك التّسليم يجب أن يؤدّي إلى وقف القتال، وضرورة أن يكون  “آمر “القطعة[19] التّي عرّفها المشرّع صلب الفصل 61 م.م.ع.ع، لم يعمل بما يأمر به الواجب والشّرف وهو ما يطرح إشكالا بخصوص مسؤوليّة المتّهم في هذا الإطار إذ كيف  يمكن تحديد ما يأمر به الواجب والشّرف وعلى أيّ أساس يحدّد ذلك ؟ 

كان على المشرّع مرّة أخرى مزيد التّدقيق والتّوضيح في هذا الخصوص حتّى لا يفسح المجال لفقدان المتّهم لضمانات أساسها موضوعي وهو نصّ التّجريم وما يمكن أن ينجرّ عنه من تعسّف في حقّ المتّهم.  

الفصل الثاّني :    جنايات الاعتداء على المصالح العسكريّة   

بالرّغم من أنّنا تعرّضنا سابقا إلى بعض الجرائم والتّي تمثّل جنايات عسكريّة صرفة، إلّا أنّنا سنبحث في الجنايات العسكريّة الصّرفة التّي تمثّل اعتداء مباشرا أو غير مباشر على المصالح العسكريّة سواء تعلّقت هذه المصالح بمصالح مادّية (الفقرة الأولى) أو مصالح أمنيّة (الفقرة الثّانية) للجيش، وبالتّالي الوقوف على مراكز وجود أو غياب الضّمانات من خلال أساس التّجريم الواقع البحث فيه .

الفقرة الأولى  : جنايات الاعتداء على المصالح المادّية للجيش 

تمثّل المصالح الماديّة للجيش عنصرا بالغ الأهميّة في عمل المؤسّسة العسكريّة باعتبارها تشتمل على التّجهيزات والمعدّات والآلات التّابعة للجيش التّي توظّف فيما يعرف بالمجهود الحربي[20]، وعلى هذا الأساس فقد جرّم المشرّع الجزائي العسكريّ، الاعتداءات على هاته المصالح، فهل أنّه راعى في ذلك أسس ضمانات التّجريم؟ باعتبار كونه وصل إلى الإقرار بأنّ بعض أعمال الاعتداء على المصالح الماديّة للجيش تمثّل أو تشكّل جناية وهي أرقى صفة إجراميّة تستوجب أشدّ العقاب، وبناء على ما تقدّم سنتعرّض إلى جناية النّهب والتّدمير والإتلاف (أ) لنتخلّص إلى جناية اختلاس متاع الجيش وإخفائه (ب).

أ . جناية النهب والتدمير والتخريب والإتلاف 

لقد خصّ المشرّع صلب أحكام مجلّة المرافعات والعقوبات العسكريّة، هاته الجناية بقسم كامل ورد تحت عنوان “النّهب والتّدمير والتّخريب والإتلاف”، وهو القسم الخامس من الباب الثّالث ضمن الكتاب الثّاني والذّي وردت تحته الفصول من 103 إلى 108 م.م.ع.ع .

ما يستشفّ من أحكام هاته الفصول هو حرص المشرّع على حماية كلّ ممتلكات الجيش من منقولات وعقّارات وحتّى مأكولات ووثائق وغيرها، وما يجب ملاحظته في هذا الإطار أنّ

المشرّع قد عدّد الأشياء والعقّارات وغيرها ممّا هو تابع للجيش وأراد حمايته، لكنّه أورده على سبيل الذّكر لا على سبيل الحصر وهو ما يدع المجال مفتوحا لعديد التّأويلات وفي هذا اتصال مباشر بجانب الضّمانات إذ الأصل أن تكون طريقة صياغة النّصوص الجزائيّة متميّزة بالدقّة والوضوح[21] وأن تكون محدّدة ضرورة. 

من ناحية أخرى نلاحظ أن المشرّع في هذا الإطار، لا يفرّق بين أعمال النّهب والتّي تمثّل أخذ الشّيء بالقهر والقوّة[22]، كما يجب أن يتوفّر على نيّة مرتكبه في امتلاك الشّيء المنهوب[23] وبين أعمال التّدمير والتّخريب والإتلاف، والدّليل على ذلك أنّه يرتّب لها العقاب في كلّ الحالات ومن هنا يبرز حرص المشرّع على حماية متاع الجيش وعقّاراته، على تعددّها واختلاف طبيعتها بقطع النّظر عن الحرص على حماية المتّهم في هذا الإطار، من باب إقرار ضمانات موضوعيّة معقولة .

بل أنّ المشرّع وفي الفصول التّي تعرّضت لهاته الجنايات قد أقرّ عقوبات بالسّجن أدناها عشر سنوات وتصل إلى الإعدام، عدا صورة الفصل 107 م.م.ع.ع أين لا ترتقي الجريمة إلى صنف الجنايات بناء على مدّة العقوبة المقرّرة .

ما نلاحظه أيضا بخصوص الفصل 105 م.م.ع.ع، أنّ المشرّع خصّص هذا الفصل لتجريم المحاولة بخصوص الجرائم الواردة بالفصل 104 م.م.ع.ع والحال أنّ أحكام القانون الجنائي العام تقرّ العقاب للمحاولة[24]، إلّا أنّ مردّ هذا التمشّي حسب الفقه هو صعوبة إثبات المحاولة[25] واقعيّا وعمليّا في خصوص جرائم الحرق أو الهدم، وبناءا على ذلك يبقى الجدل قائما بخصوص الإقرار بالصّفة العسكريّة لهاته الجرائم إلاّ أنّه وجب على المشرّع التزام الدقّة والتّحديد في نصّ التّجريم تماشيا مع الضّمانات الموضوعيّة الواجبة للمتّهم.  

ب .  جناية اختلاس متاع الجيش وإخفائه 

لقد تعرّض المشرّع ضمن أحكام مجلّة المرافعات والعقوبات العسكريّة إلى جرائم “اختلاس متاع الجيش وإخفاؤه”، حيث ورد تحت هذا العنوان القسم الرّابع من الباب الثّالث ضمن الكتاب الثّاني، ونظّمته الفصول التّي احتواها وهي الفصول 99 إلى 102 م.م.ع.ع .

وتتكوّن من أحكام هاته الفصول جرائم تتّخذ صفة الجناية، عدى صورة الفقرة الأولى من الفصل 100 م.م.ع.ع إذ تعرّض المشرّع صلب الفصل 99 م.م.ع.ع والمنقّح بمقتضى الفصل 8 من القانون عدد 23 لسنة 1989 المؤرخ في 27 فيفري 1989، تعرّض إلى جريمة السّلب وأقرّ لها كعقوبة دنيا السّجن ستّ سنوات وقصوى ألا وهي الإعدام، وقد أوجب أن ترتكب هاته الجريمة في “منطقة أعمال قوّة عسكريّة ” وهو ما يمثّل مكان ارتكاب الجريمة، وأما الرّكن المادي لقيامها هو الفعل الإيجابي المتمثّل في فعل السّلب لكن ذلك يشترط في المسلوب أن يكون عسكريّا وأن يكون جريحا أو مريضا أو ميّتا.

إنّ الإشكالات المطروحة هنا هي ما المقصود “بمنطقة أعمال قوّة عسكريّة”، وهو ما يثير مرّة أخرى مسألة الدقّة والتّحديد التّي يجب على المشرّع أن يحترمها ويتوخّاها خصوصا وأنّنا حيال نصّ جزائي يقرّر جريمة منسوبة لفعل معيّن وعقوبة، سيما أنّ الجريمة متعلّقة بجناية وهذا ما يوجب التّفكير في الضّمانات اللاّزمة والتّي يجب على النصّ الجنائي أن يحترمها .

إلاّ أنّ الفصل 100 م.م.ع.ع تجاوز السّلب إلى جريمة السرّقة وجريمة الاختلاس وذلك بأن جرّم سرقة وبيع ورهن واختلاس وإبدال كلّ الأشياء والتّجهيزات الرّاجعة للجيش، ولكن على أن تمثّل هاته الأفعال الإجراميّة جناية وجب أن يكون الفاعل مؤتمنا على تلك الأشياء، وهو شرط تنتقل معه الجريمة من مرتبة الجنحة إلى مرتبة الجناية وبالتّالي يصبح ظرف تشديد.

ويبقى الجدير بالذّكر، الإشارة إلى اتّساع نطاق التّجريم بهذا الفصل سواء من حيث الأفعال التّي جرّمها المشرّع أو من حيث الأشياء موضوع التّجريم. 

كما وجبت الإشارة إلى أنّ العقوبات التّي أقرّها المشرّع صلب الفقرة الأولى من الفصل100 م.م.ع.ع هي عقوبات أخفّ من المقرّرة بالقانون الجزائي العام وهو ما يعتبر ضمانة للمتّهم في إطار هاته الجرائم العسكريّة الصّرفة بحيث تطبّق عليه أحكام المادّة العسكريّة والتّي كثيرا ما اتّصفت بالتشدّد والصّرامة. 

الفقرة الثاّنية :  جنايات الاعتداء على المصالح الأمنيّةّ 

تتمثّل جنايات الاعتداء على المصالح الأمنيّة في جنايات الخيانة والتجسّس وكذلك التّجنيد لصالح العدوّ، وقد كنّا تعرّضنا لهاته الجرائم في ما يتعلّق بالجرائم العسكريّة المختلطة وتحديدا بجرائم المسّ من أمن البلاد، لكنّنا الآن سنتعرّض لها بحكمها جنايات تدخل ضمن إطار الجرائم العسكريّة الصّرفة .

أ  . جناية الخيانة العسكريّةّ 

رغم أنّ المشرّع لم يستعمل عبارة “الخيانة” بصفة صريحة، إلّا أنّ ذلك يستشفّ من السّياق الذّي وردت فيه من خلال عنوان القسم العاشر من الباب الثّالث ضمن الكتاب الثّاني لكن بالرّجوع إلى الفصول المعنيّة بجناية الخيانة، لم ينصّ المشرّع على ذلك صراحة، وإنّما يمكن استنتاج ذلك من طبيعة الأفعال المجرّمة في حدّ ذاتها .

ومن هذا المنطلق وبالرّجوع إلى أحكام الفصول 177 و188 و119 م.م.ع.ع نلاحظ أنّ المشرّع قد تعرّض لحالة أولى تقوم معها جناية الخيانة العسكريّة وهي حالة الفقرة الأولى من الفصل 117 م.م.ع.ع والمتمثّلة في حمل السّلاح ضدّ تونس سواء كان ذلك من “عسكريّ تونسيّ أو في خدمة الجيش التّونسي”، وحمل السّلاح في هاته الحالة لا يعني بالضّرورة المشاركة في عمليّات عسكريّة ضدّ تونس وإنّما المقصود هو الانتماء إلى جيش أجنبي[26]. وفي هاته الحالة كان على المشرّع أن يكون أكثر دقّة في تحديد الفعل المُجرّم والذّي يتّهم معه العسكريّ بارتكاب جناية الخيانة العسكريّة.

 أمّا الحالة الثّانية فقد أوردها المشرّع صلب أحكام الفصل 118 م.م.ع.ع وهي حالة الخيانة القائمة على التّسليم للعدوّ أو في مصلحة العدوّ، وهو العنصر الأساسي لقيام جناية الخيانة العسكريّة في هاته الحالة ولكن ذلك يتطلّب ضرورة إثبات القصد الخاصّ والمتمثّل في أنّ الهدف من التّسليم هو مساعدة العدوّ .

والحالة الثّالثة ضمن أحكام العدد 2 من الفصل 118 م.م.ع.ع والمتمثّلة في اتّصال العسكريّ بالعدوّ قصد تسهيل أعماله، حيث يكون هذا الاتّصال غير مشروع، ويمثّل جناية الخيانة، والإشكال المطروح هنا دائما، هو كيفيّة إثبات القصد الجنائي الخاصّ وهو تسهيل أعمال العدوّ، ثمّ من ناحية أخرى كيفيّة الاتّصال الذّي لم يُعرّفه المشرّع ممّا يسمح باتّساع مجال التّجريم وهو ما يتنافى ومصلحة المتّهم.

كما أورد نفس الفصل 118 م.م.ع.ع الحالة الرّابعة والمتمثّلة في الاشتراك في المؤامرات والتّي يكون هدفها “الضّغط على مقرّرات الرّئيس العسكريّ المسؤول” وفق ما جاءت به عبارات الفقرة الأخيرة من هذا الفصل .

ولكنّ المشرّع لم يقم بتعريف المؤامرة صلب أحكام مجلّة المرافعات والعقوبات العسكريّة والتّي تتطلّب توفّر أركان متمثّلة في العزم والوفاق والتقارب بين شخصين أو أكثر[27]، وفق ما أقرّته أحكام القانون الجنائي العام، والجناية هنا تقوم بمجرّد الاشتراك في المؤامرة وليس بناء  على حصول نتيجة للفعل، لكن يجب أن تكون المؤامرة هادفة إلى التّأثير على قرارات المسؤول العسكريّ المعنيّ في هذا الفصل .

بقي أنّ خامس الحالات المذكورة أعلاه هي التّي جاءت بها أحكام الفصل 119 م.م.ع.ع وهاته الحالة تتوزّع على عدّة أفعال وأعمال أوردتها كلّ من عبارات الـفقرات : أ – ب – ج – د من الفصل 119 م.م.ع.ع، لكن يبقى أساس ارتقاء هاته الأفعال للخيانة المكوّنة منها جناية هي أن تكون قد وقعت في حالة الحرب أو في منطقة حصار عسكريّ، وفق أحكام  الفقرة الأولى من ذات الفصل، هذا في ما يتعلّق بالمكان والزّمان، وأمّا الأمر الثّاني فهو الهدف من ذلك الفعل وهو أن يكون الغرض منه إعانة العدوّ أو الإضرار بالجيش وهذا قصد جنائيّ خاصّ يفتح إشكال الإثبات باعتباره أساسا من أسس التّجريم المذكور، إلّا أنّه وجبت الإشارة إلى أنّ حالات قيام جريمة الخيانة المتّصفة بالجناية المشار إليها أعلاه تهمّ العسكريّين باعتبارنا بصدد البحث في الجرائم العسكريّة الصّرفة المتّصفة بالجناية.

ب  . جناية التجسّس العسكريّ 

لقد قام المشرّع صلب أحكام مجلّة المرافعات والعقوبات العسكريّة بتحديد جناية التجسّس العسكريّ صلب الفصلين 121 و 122 م.م.ع.ع. وأمّا حالة الفصل 121 م.م.ع.ع فقد عدّدت ثلاث صور للتجسّس تعلّقت جميعها بشخص الجاسوس وهو أن يكون عسكريّا تونسيّا، وهي ثلاث حالات وردت بالفقرات: أ-ب-ج من نفس الفصل، أوّلها دخول العسكريّ إلى أيّ موقع أو مؤسّسة أو منشأة عسكريّة أو محلّ تابع للجيش يكون الغرض منه التوصّل بوثائق أو الحصول على معلومات من شأنها أن تنفع العدوّ، ولكنّ الجريمة هنا قائمة حتّى في صورة عدم ثبوت أنّ ما تحصّل عليه يعود بالنّفع على العدوّ، إذ أنّه حتّى في صورة ما إذا كان العسكريّ المعنيّ بالدّخول يحسب أن تلك الوثائق أو المعلومات تعود بالنّفع على العدوّ، تقوم الجريمة حتّى إذا كان الواقع خلاف ذلك.

أمّا ثاني الحالات وهي الواردة بالفقرة  “ب” من نفس الفصل، والمتعلّقة بإعطاء العسكريّ لوثائق أو معلومات للعدوّ من شأنها أن تضرّ بمصالح الجيش عامّة، وإن لم تكن تلك المعلومات والوثائق تمثّل ضررا، فذلك لا يمنع من قيام الجريمة المعنيّة. 

أمّا ثالثها فيخصّ العسكريّ الذّي يتعمّد بنفسه أو بواسطة غيره إخفاء الجواسيس أو الأعداء وهي حالة الفقرة “ج” من الفصل 121 م.م.ع.ع.

 هذا في ما يخصّ جناية التجسّس التّي يقوم بها العسكريّ التّونسي، لكنّ الفصل 122 م.م.ع.ع قد أورد صورة أن يكون الجاسوس عدوّا في حدّ ذاته، وهي صورة دخوله متنكّرا إلى الأماكن المذكورة في الفصل 121 م.م.ع.ع .

والجدير بالذّكر أنّ المشرّع أقرّ أقصى العقوبات الممكنة ألا وهي عقوبة الإعدام لجناية التجسّس سواء كانت على معنى الفصل 121 أو 122 م.م.ع.ع .

ج .   جناية التجّنيد لصالح العدوّ 

هاته الجناية تعرّض لها المشرّع صلب أحكام الفصل 123 م.م.ع.ع والذّي نُقّح بموجب المرسوم عدد 120 لسنة 1979 المؤرخ في 10 أكتوبر 1979  فيما نقحّت فقرته الثّانية بمقتضى أحكام الفصل 8 من القانون عدد 23 لسنة 1989 والمؤرخ في 27 فيفري 1989. 

وفي هذا الصّدد وانطلاقا من أحكام الفصل المذكور يمكن التّمييز بين ثلاث صور لقيام جناية التّجنيد لصالح العدوّ: 

أوّلها: أن يجنّد التّونسي نفسه أو غيره لصالح دولة تكون في حالة حرب مع البلاد التونسيّة أو أن ينضمّ إلى المتمرّدين وذلك وفق ما جاء بالفقرة الأولى من الفصل 123 م.م.ع.ع والمقصود بالتّجنيد هو الانتداب أو الانخراط بالجيش[28]، فتجنيد النّفس أو الغير تقوم معه جناية التّجنيد لصالح العدوّ، كذلك الانضمام إلى المتمرّدين والذّين يمثّلون مجموعة أفراد ثائرين داخل البلاد[29] وليس خارجها، بحيث “لا تشمل العصابات التخريبيّة في الخارج”[30].

ثانيها: صورة وضع النّفس زمن السّلم تحت تصرّف جيش أجنبي وهو ما نصّت عليه الفقرة الثّانية من الفصل 123 م.م.ع.ع، و وجبت الإشارة في هذا الصّدد أنّ المقصود من عبارات الفصل المذكور هو التّونسي الذّي يجنّد نفسه لصالح  جيش أجنبي زمن السّلم بتونس يعني أن يكون يعمل  لمصلحة جيش دولة أجنبيّة وليس أن يكون المعني بالأمر خارج تونس.

ثالثها: صورة وضع النّفس تحت تصرّف منظّمة إرهابيّة تعمل بالخارج، وإن شكّلت هاته الحالة جناية عسكريّة وفق منطوق النصّ، تحديدا بالفقرة الأولى من نفس الفصل المذكور أعلاه إلاّ أنّ الإشكال المطروح في هذا الإطار هو تحديد “المنظّمة الإرهابيّة” لأنّ هذا المصطلح مطلق وغير محدّد، فعلى أيّ أساس يمكن تحديد المنظّمة التّي تتّصف بصفة الإرهاب من عدمه ؟ وما هي المعايير القانونيّة الدّقيقة والواضحة المعتمدة في ذلك ؟ طالما أنّ العقوبة المقرّرة لهاته الجناية هي السّجن مدّة عشر سنوات إضافة إلى الحرمان من الحقوق المدنيّة ومصادرة الأملاك إضافة إلى إمكانيّة تسليط العقوبات التّي تستوجبها جرائم الاعتداء على أمن الدّولة[31]، وهو ما يوحي بخطورة الجريمة وشدّة العقوبة وهذا ما يفرض التّدقيق والوضوح في استعمال المصطلحات عن طريق تحديدها أو تحديد المقصود منها، فالصّفة الإرهابيّة واسعة وغير محدّدة قانونا[32]، وإذا ما تمّ ترك التّحديد لفقه القضاء، فذلك لا يمنع من إمكانيّة حصول التباسات قد تضرّ بالمتّهم وبحريّته العامّة، وقد سبق أن نظرت المحكمة العسكريّة في مثل هاته القضايا[33]، وكذلك محكمة التّعقيب، و يمكن للمشرّع الجزائيّ العسكريّ هنا أن يُحيل إحالة نصيّة إلى أحكام القانون الأساسي عدد 26 المؤرّخ في 07 أوت 2015 و المتعلّق بمكافحة الإرهاب و منع غسل الأموال[34].

إنّ ما يلاحظ من خلال التعرّض لكلّ هاته الجنايات العسكريّة السّابقة هو أنّ المشرّع قد أكسبها الصّبغة العسكريّة الصّرفة، في حين أنّ بعضها يمكن أن يكون مرتكبها مدنيّا وليس عسكريّا، كما يمكن أن لا يتعلّق موضوعها بالمساس من مصلحة عسكريّة، وهو ما يطرح إشكالا حول الأساس الذّي اعتمده المشرّع في هذا الصّدد لأنّ ذلك يتسلّط على المتّهم ويحدّ من جانب الضّمانات التّي يجب أن تتوفّر له في إطار هاته المحاكمات والتّي تنطلق من أساس التّجريم .

وما يثير الاستغراب هو أنّ المشرّع قد تعرّض بالتّنقيح لأحكام مجلّة المرافعات والعقوبات العسكريّة، بمقتضى المرسوم عدد 69 لسنة 2011 المؤرّخ في 29 جويلية 2011، ولكنّه لم يمسّ الجانب الموضوعي، بحيث أنّ أحكام هذا التّنقيح لم تشمل الكتاب الثّاني من المجلّة وإنّما اقتصرت على الكتاب الأوّل منها والمتعلّق بالجانب الإجرائي، فهل أنّ ذلك راجع إلى حتميّات وضرورات الثّورة التّي فتحت المجال أمام القضاء العسكريّ ليكون في مواجهة مباشرة مع الرّأي العام، بصفة عامّة، والحقوقيّ بصفة خاصّة، بحكم انتصاب المحاكم العسكريّة للنّظر في عديد القضايا خصوصا منذ 2011 إلى غاية اليوم؟ وهو ما يدعو المشرّع إلى إيلاء الجانب الموضوعي الأهميّة اللّازمة، حيث يبقى ذلك إشكالا مطروحا في انتظار أن يتمّ  تداركه.  

                                                                          تمّ بحمد الله

   الجرائم العسكريةّ الصِّرْفَة  المُتَّصِفة بالجناية

   دراسة تحليليّةّ نقديّةّ من خلال أحكام مجلّةّ المرافعات و العقوبات العسكريّةّ التّونسيّة
 
من إعداد باحث الدّكتوراه في القانون و الناّشط الحقوقي :

الأستاذ : أسامة نورالدّين باسطي
 


[1]  –  أنظر التعليمات الوزارية المتعلقة بالانضباط العام للعسكريين لسنة 2002، ص .21. 

[2]  –  راجع الفصول من 68 إلى 70 م.م.ع.ع   .

[3]  –  أنظر نوفل بوقديدة، جرائم الفرار من الجندية التخلف وعدم تلبية الدعوة للخدمة العسكرية، رسالة لنيل شهادة ختم الدروس
      المعهد الأعلى للقضاء ،1996 – 1997، ص .114.  

[4] DOLL (R-J), Analyse et commentaire du code de juriste militaire (loi du 08/07/1965), librairie

générale de droit et de jurisprudence, Paris, 1996, n°500, p. 312 et 313.  

[5] – الانتحار هو قتل الشّخص لنفسه، و قد كان مجرّما قديما، غير أنّ القوانين الحديثة لم تُجرّم هذا الفعل و منها القانون
      التّونسي.  

[6]  –  توطئة التعليمات الوزارية الخاصة بالانضباط العام بالجيش المؤرخة في 10 جوان 1971.    

[7]  – الموسوعة العسكرية، ج1، ص .471.   

[8]  – راجع قواعد الانضباط العام، وزارة الدفاع الوطني، سنة 2002. 

 [9]  – محمود محمود مصطفى، الجرائم العسكرية في القانون جزء أول، قانون العقوبات العسكري، طبعة أولى، دار النهضة
      العربية ،1971، ص.151. 

[10]  –  راجع  الفصل       58 م.م.ع.ع .

 [11]  –  الفصل 33 من النظام الأساسي لمحكمة الجزاء الدولية الدائمة .

[12] – كثوم بن عطية هداج، الجريمة العسكرية، مذكرة لنيل شهادة الدراسات المعمقة في العلوم الجنائية، كلية الحقوق والعلوم السياسية 
           بتونس ،2000-2001. ، ص .85.  

[13] – أنظر الفصل 80 م.م.ع.ع.

[14]  –  أنظر الفصل 58 م.م.ع.ع .

[15] –  HUGUENEY (P), Traité théorique et pratique de droit pénal et de procédure pénale militaire, Recueil Sirey, Paris, 1933, n°516, p. 541.  

[16] –  محمود محمود مصطفى ،”الجرائم العسكرية في القانون المقارن، جزء أول وثان، دار النهضة العربية، القاهرة ،1971، عدد
       70،ص.133.   

[17] –  كلثوم بن عطية هداج، مرجع سابق، ص .94. 

[18] – الحبيب تريمش ،”القضاء العسكري التونسي”، دراسة تحليلية وتطبيقية لمجلة المرافعات والعقوبات العسكرية، شركة فنون الرسم والنشر 
         والصحافة، تونس ،1993. ، ص .299. 

[19]  –  أنظر الفصل 67       م.م.ع.ع.

[20]  –  الحبيب تريمش، مرجع سابق، ص .286.  

[21]  – محمود محمود مصطفى، مرجع سابق، عدد 25، ص .55-56. 

[22]  – الحبيب تريمش، مرجع سابق، ص .283.   

[23]  – كلثوم بن عطية هداج، مرجع سابق، ص .100.   

[24] HUGUENEY (P), op.cit, n°612, p.634.     

[25] HUGUENEY (P), op.cit, n°613, p 6235 et n°615, p.637.

[26] HUGUNEY (P), op.cit, p. 484, p. 524. 

[27]  –  أنظر الفصل 69 م.ج .

[28] HUGUNEY (P), op.cit, n°512, p. 539. 

[29]  –  كلثوم بن عطية هدّاج، مرجع سابق، ص .118.   

[30]  – أنظر مداولات مجلس النواب عدد 2 ليوم 27/11/1979 حول القانون عدد 55 لسنة 1979 المتعلق بالمصادقة على
         المرسوم الصادر في 10 أكتوبر 1979 المتعلق بتنقيح بعض فصول مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية، ص .33.    

[31]  –  أنظر المجلّة الجزائيّة، الفصول من 60 إلى 81 م.ج .

[32]  – كلثوم بن عطية هدّاج، مرجع سابق، ص .119.  

[33]  – حكم جنائي صادر عن المحكمة العسكريّة بتونس تحت عدد 1210 بتاريخ 20 فيفري 1999 (حكم غير منشور) .

   [34] – أنظر الرّائد الرّسمي للجمهوريّة التونسية عدد 63 المؤرّخ في 07 أوت 2015، ص 2163 و ما بعدها .

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: حقوق النشر و الطباعة محفوظة لمجلة الميزان
إغلاق