القانون الخاصمقالات الرأي

الصلح في الجريمة الديوانية في القانون التونسي – عبد العزيز القاطري

تمُثّـل آلية الصلـح فـي المـادّة الديــوانية شكلا من أنجع أشكــال إنهــاء النزاع الدّيـواني بقطع النّـظر عن مدى تورّط المخــالف أو وجــاهة المخـالفات المرفــوعة ضدّه والطّلبــات الإداريّة المقدّمة للمحكمة، حيث تُمكّـن هذه الآلية الخــزينة من مـوارد مـالية فـي الحيـن دون انتظــار الحكم في القضـايا ومـا تحتمله من عدم سمــاع الدّعــوى أو سقـوط بالتّقـادم، وتُجنّـب ذوي الشبهة مزيـدا من العقـوبات المــالية والجسدية ومـا ينجرّ عنهــا من تحجيــرات وانعكــاسات وخيـمة على أنشطتهم، وتخفّف كــاهل المحــاكم من طــول إجـراءات التّقــاضي ومــا فيها من جلســات ومطــالب تأخيـر واستئنـاف وتعقيــب قد تأخذ سنين طويلة.

لذلك تضمّنت التّشريـعات الديـوانية في جميـع بلدان العــالم فصــولا تُمكِّـن إدارات الدّيـوانة من إبـرام الصلح مع ذوي الشبهة، وقد نسجت تـونس على منـوالها منذ حصــولها علـى استقلالها الدّاخلـي حيث ذكر الفصل 220 من مجلة الدّيـوانة القديـمة الصّــادرة بموجب أمر علي مؤرخ في 29 ديسمبر 1955 أنّه:

1 ـ يجوز لإدارة الديوانة إبرام صلح مع الأشخاص الواقع تتبعهم من أجل ارتكاب مخالفات أو جنح ديوانية.

2 ـ يمكن إبرام الصلح قبل صدور الحكم النهائي و تنقضي الدعوى العمومية بموجب تنفيذ الصلح.

3 ـ إلا أن الصلح المبرم بعد صدور حكم نهائي لا يحول دون تنفيذ العقوبات البدنية.

ورغم أنّ هذا الفـصل لم يقيّد إدارة الدّيـوانة بأيّة شروط أو قيـود من حيث الشّكـل أو الأصل لإبـرام الصّـلح مع الأشخــاص الـواقع تتبّعـهم، إلّا أنّ الإدارة فرضت علـى منظـوريها مِمّن يعهد لهم إبرام الصّلح بمـوجب خططهم قيـودا تهدف للحدّ من سلطتهم التّقديـريّة ولتجنّب أيّ انحـراف بالسّلـطة، وذلك بربط مبلغ الخطـايا الصّلحية بنوعية المخـالفة (تصريح مغلوط أو تهريب) وبنيّة المخــالفة (متأكّدة، محتملة، مستثنـاة) وبإمكـانية الإفلات (قويّة، متوسّطة، ضعيـفة)، كل ذلك ضمن جدول يحدّد الخطية طبقـا لنسبة مئوية من قيمة البضـاعة المخـالف في شأنهـا أو من مبلغ الآداءات المتفصّـى من دفعهـا، حسب الحــالة، علـى أن يقع توثيـق كل ذلك ضمن تقرير (feuille d’avis sur les transactions) يرفع للرّئيـس المبـاشر للمصــادقة على الصّـلح.

وأذكـر بالمنـاسبة أنّه عند نقلتي في بداية مشواري المهني إلـى غـارالدّمـاء بصفة قـابض للدّيـوانة بطلب منّـي، تمّ استقبـالي من طرف المديـر العـام (سي م.ب) آنذاك، حيث أسداني نصـائح ثميـنة لا تُنسـى، ومنهـا قوله لي بخصـوص تعـاطي أهـالي المنطقة لأتشطة التّهريـب : »غمّض عين وحل عين « ، شـارحا لي أنّه لو تغــاضينا قد نقع فيـما لا يُحمدُ عقبـاه، ولو توخّينـا الصرامة المطلقة، فقد يُضطرّ أهــالي المنطقة للنّـزوح وتركهـا خالية، وهو مـا يصبـو إليه أعداء الوطن.

لذلك، عندمـا كان يجلب لي أعـوان الفرقة بعض محـاضر تتعلّـق بالمسحـوقين من متسـاكني المنطقة الحدودية أو بضـائع البـاعة المتجوليـن الّذيـن يتـاجرون فيها لسدّ الرّمق، يحدث أن أتخذ في شأنهم قرارات صلح تقضـي بخطـايا رمزية، وأحيـانا بحفظ المحـاضر دون أيّة خطــايا، بينمـا أتولّـى التّرفيــع في قيمة الخطـايا بالنسبة لمُحتـرفي التّهريـب، وكـانوا يدفعـونها عن طيب خـاطر وبسرعة، كي يعودوا لنشـاطهم في أسرع وقت.

كمـا أذكر أنّـي كنت ذات مرّة في مهمّة في بـاريس صحبة بعض الضبّــاط السّـامين منهم مـراقب عــام، وقد شرح لنـا أحد ضبّــاط الصّف بمطــار أورلي أنّه مُخول له إبــرام الصّلـح مع المســافرين المخــالفين، ســواء منهم القـادميــن إلى فرنسـا أو المُغـادريـن لهـا، بإلزامهم بدفع خطــايا متفـاوتة المبـالغ حسب ما يتحوّزون عليه من عملة، تــاركا لهم مـا يحتـاجونه لمصـاريف إقــامتهم، وأحيـانا بالتّنـازل عن البضـاعة مـوضوع المخـالفة وحفظ الملف.

بالمقــابل، يحدث أن يرفض بعض المسئـولين تحمّـل مسئـولياتهم في هذا المجــال بدعـوى تجنب المســاءلة، فإمّـا ان يرفضــوا إبرام الصلح مرة واحدة، أو أن يصدروا قرارات صلح مُشِطّـة وغيـر قـابلة للتّنفيـذ، بمـا يجعل المخـالفين يجنحـون للتّقـاضي وتمطيـط الآجـال وتأجيـل الجلسـات إلـى أقصـاها، مع مـا يتطلّبه ذلك من ازدحـام في المحـاكم وتراكم القضـايا إلـى ما لا نهاية له. وقد كنت شـاهدا علـى قضية مكثت 30 سنة بين تقـاضي وإجراءات، ومات اثنـان من المخالفيـن الثّلاثة، ومع ذلك يتشبّث المسئـول عن النّزاع برفض الصلح أو بخطــايا لا طاقة لمن بقي حيّـا بها. كمـا حدث أن التمس بعض المخـالفين صلحـا يقضي بدفع خطية معقـولة في شكل تسبقة ببعض ملاييـن الدّيـنارات على أن يقع تمكيـنه من استئنـاف نشـاطه كي يتمكّن من دفع البـاقي على أقسـاط وعودة 300 عـامل إلـى شغلهم، فتمّ رفض عرضه، و”احترق” المصنع، ورجع المستثمر إلـى بلاده بعد أن قبض التعويـضات من شركة التّـأمين، وتمّ تقديـم الملف للمحكمة مصحبا بطلبات تتضمن خطـايا بعشرات ملايين الديـنارات لم تحصل منهـا الدولة ولو على مليم واحد، ونـال المسئول رتبة أعلى وخطة مـراقب عـام.

وقد حدث أن ضبط أعوان أحد المـراكز الحدودية عجـوزا بحوزتهـا ورقة من فئة الـ500 فرنك فرنسي، ما قيمته 80 دينـارا آنذاك، لمّـا كـانت ذاهبة للجزائر لاقتناء بعض الآنية النّحـاسية وبيعهـا في تونس كسبـا للقمة العيش، وحيث حدث أن قرّر بن علـي منع الصّـلح في الجُنح الصرفية بداية تسعينات القرن المـاضي انتصـارا لإحدى صديـقات زوجته الّتـي سعت للتّنكيـل بشقيـق زوجهـا المتوفّـى من أجل حسـابات في الخـارج لم يصرّح بها للبنك المركزي، مـا أدّى إلـى سجنه رغم إصـابته بالسّرطـان وموته في السجن، كـان ولا بدّ أن تتم إحـالة ملفّ القضيّة علـى العدالة مصحـوبا بطلبات الإدارة وفقـا لمقتضيـات الفصل 35 من مجلة الصّـرف الذي ينصّ علـى عقـوبة بالسجن من شهر واحد إلى خمس سنوات وبخطية من مائة وخمسين دينار إلى ثلاثمائة ألف دينار، وقد حكم القـاضي عليهـا بأقصى العقـوبة ، أي ب300 ألف دينار، مع إضـافة 75 ألف دينار (الدسيمين ونصف الدسيم)، وتمّ تثقيـل الحكم بالقبـاضة، ولمّـا لم تدفع العجـوز، تم استصدار إذن بالجبر بالسجن ضدّهـا، وتمّ الزّج بها بالسجن.

ولو يتّسع المجــال لحدّثتكم علـى مزيـد من المضحكـات المبكيـات حول حكايات الصلح المرفوض أو غيـر القـابل للتّنفيذ، غيـر أن مـا سيأتي سيزيـد الطّيـن بلّـة.

فقد تبنّــى الفصل 322 من مجلة الدّيــوانة الجديـدة الصّــادرة بمـوجب القـانون عدد 34 لسنة 2008 مؤرخ في 2 جوان 2008 نفس مقتضيات مجلّة 1955 بإضــافة فقرتيــن كالتّــالي:

4 ـ تخضع مطالب الصلح لرأي لجنة مركزية أو لجان جهوية وذلك حسب طبيعة المخالفة أو الجنحة ومبلغ المعاليم والأداءات المستوجبة.

5 – تضبط تركيبة وطرق سير عمل هذه اللجان بمقتضى أمر.

ولئن صدرت تلك المجلّة “الجديـدة” في 2008، فإن عشرات النّصـوص التطبيـقية التـي اقتضتهـا فصولها لم يصدر أغلبهــا إلـى اليـوم، وحتّـى الأمـر المشـار إليه بالفقرة 5 أعلاه، فإنّـه لم يصدر إلّا في شهر أكتـوبر من 2018، أي بعد عشر سنوات كـاملة، رغم وجود مكتب بالإدارة العـامة للدّيـوانة مكلّف بالتشريع برتبة إدارة مركزية يزخـر بالطّـاقات الكفؤة والمهدورة.

وقد ضبط الأمر حكومي المذكـور والصّــادر تحت عدد 823 لسنة 2018 مؤرخ في 9 أكتوبر 2018 تركيبة وطرق سير عمل اللجنة المركزية للصلح برئـاسة المديـر العـام للدّيـوانة وعضوية أربعة مـراقبين عـامين ومديـريْن اثنيْـن، ويكفي النظـر إلـى هذه التّركيـبة وثقلها كي نستخلص أنهـا تمثّـل ضربة قـاضية علـى الرّمق المتبقّـي من النجـاعة والسرعة في فضّ النّزاعات مع الإدارة، فمـا بالك إذا علمنا أنهــا تجتمع بدعوة من رئيسها بمقر الإدارة العامة للديوانة مرة كل شهر على الأقل وكل ما دعت الحاجة إلى ذلك بناء على جدول أعمال يحال إلى جميع الأعضاء سبعة أيام (7) على الأقل قبل تاريخ الانعقاد مصحوبا بملفات القضايا ذات الصلة، ويتم الاستدعاء بأي وسيلة تترك أثرا كتابيا، وأن هنـاك نصـابا وتصويـتا بالأغلبية وضـرورة تدويـن المداولات في محضر جلسة، وأنّ نفس القـواعد والإجـراءات تنطبق علـى اللجـان الجهوية للصّـلح، وأنّ عدد مطـالب الصّلـح النّـائمة برفوف الإدارة تعدّ بعشرات الآلاف، حيث يعـود بعضها إلى 2012 دون ردّ إلـى اليـوم ولو بالرفض؟

في الأثنـاء، ينشغـل المسئـول المكلّف بهذه الملفّـات بالتّدويـن علـى فيسبوك مشـاركا في “حملة شعبية” لترشيـح أحد الأعضـاء المقـالين من الحكومة المتخلّية لمنصب رئيـس حكـومة، ضـاربا عرض الحـائط بواجب التّحفظ كضـابط سامي ينتمـي إلـى سلك شبه عسكـري، وحـاشرا الإدارة والسلك في صـراعات سيـاسية همـا في غنـى عنها بموجب مبدأ حياد الإدارة.

لكن لقـائل أن يقـول: مـا دامت تركيبة اللجـان بهذه الأهمية، فلا بدّ أن لهـا من المشمـولات مـا يجعلهـا تتفـاعل مع حيثيـات القضـايا وتطوّع الصلح إلـى خصـوصية كل قضية مع مراعاة قدرة المخـالفين على الدّفع…خاصة وأن الفصل 12 نص على أن اللجنة المركزية للصلح واللجنة الجهوية للصلح تبُتّــان في الملفات المعروضة عليهما أخذا بعين الاعتبار طبيعة الجريمة الديوانية أو الصرفية من حيث تكييفها كمخالفة أو جنحة وبالاعتماد خاصة على المقاييس التالية :

‌أ. بالنسبة إلى الجرائم التي تمت معاينتها بمكاتب الديوانة :

 نية التحيل عند المخالف وذلك بحسب ما إذا كانت مؤكدة أو مشكوك فيها أو مستبعدة اعتمادا على الملابسات والظروف التي حفت بارتكاب عملية الغش.

 فرص الإفلات من اكتشاف التحيل من قبل مصالح الديوانة وذلك بالاعتماد على ما إذا كانت ضعيفة أو متوسطة أو كبيرة.

 المرحلة من مسار التسريح الديواني التي تمت فيها معاينة عملية الغش (مراقبة مسبقة، مراقبة حينية، مراقبة لاحقة).

 نسبة المعاليم والأداءات المتفصى من دفعها بالاعتماد على قيمة البضاعة موضوع الغش.

 وجود سوابق للمخالف.

‌ب. بالنسبة إلى الجرائم التي تمت معاينتها خارج مكاتب الديوانة:

 نوعية البضاعة موضوع الغش وذلك حسب ما إذا كانت بضائع محجرة تحجيرا مطلقا أو مصنفة كبضاعة حساسة من الناحية الأمنية أو خاضعة لتراخيص أو لقيود فنية أو كمية عند التوريد أو عند التصدير أو المسك أو الجولان.

 ظروف وملابسات ارتكاب الغش أو التحيل على غرار استعمال وسائل نقل تمت تهيئتها للغرض أو استعمال أسلحة أو التهديد بها أو استعمال أموال متأتية من جنحة التهريب أو من تبييض الأموال.

 وجود سوابق للمخالف.

هنا يتدخل الفصل 13 من نفس الأمـر ليقرر أن الصلح يتم طبقا لتعريفة (Barême) تضبط طبقا للمقاييس المشار إليها بالفصل 12 أعلاه، بمقتضى مذكرة داخلية مصادق عليها بمقرر من وزير المالية، بحيث يصبح عمل تلك اللجــان مقتصـرا علـى المصـادقة على الخطــايا المحدّدة بمقتضـى تلك التّعـريفة دون زيـادة أو نقصـان، فـي تحدّ صـارخ لأبسط مبـادئ المنطق وضـوابط النّجــاعة والسرعة.

إن إدارة النّـزاعات والتّتبعــات بالإدارة العــامة للدّيـوانة ومصـالح النّـزاعات بالإدارات الجهويـة التّــابعة لهــا تمثل المخنق الذي تؤول إليه كـافة محـاضر مقـاومة الغش والتهـريب التـي تحرّرهـا هيـاكل الدولة من ديـوانة وغـابات وحرس وطني وشرطة وجيش، وإذا كان ذلك المخنـق يشتكـي من انسداد أو تعطّـل، فإنّـه يحكم على مجهــودات الجميـع بالعقم والثّبـور، وبالتّــالي يحرم الخزيــنة من عائـدات هــامة مـا أحوج الدّولـة لهـا في هذا الضّـرف بالذّات، ويحكـم علـى عديد المؤسسـات التّـونسية بالإعدام، بينمــا يحدو بالمستثمريــن الأجـانب لإغـلاق مؤسّسـاتهم ومغــادرة البلاد مثلمـا ذكرت أعلاه.

لذلك أدعــو إلـى مـراجعة الفصل 322 من مجلة الدّيـوانة باتجـاه إضفـاء المرونة والنّجـاعة اللازمتيـن على إجراءات الصّـلح، وذلك بإلغــاء الفقـرتين الجديدتين المتعلقتيـن بإحداث لجــان الصلح، وتمكيــن المسئـولين من مشمـولات تكفل لهم إبـرام الصلح وفضّ النّـزاعات فـي إطــار سليم وشفّــاف وتحت رقـابة رؤســائهم المبــاشرين، مع تدعيـم هيــاكل الرّقــابة الإدارية بالمــوارد البشرية و المــادية اللازمة من سيـارات وحـواسيب وتطبيـقات وميـزانية لتغطية مصـارف المبيت والإعــاشة عند التّنقل داخل الجمهــورية، حتّـى تتمكّـن من إجراء التحقيقات والتّدقيــقات الضرورية في أعمــال جميع المصـالح.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: حقوق النشر و الطباعة محفوظة لمجلة الميزان
إغلاق