مقالات الرأي

عندما تتنكّر الجرائم في ثوب القانون … الأزمة التّونسيّة نموذجا – الأستاذ : أسامة نور الدّين باسطي


يقول محمود درويش : ” ما أشدّ براءتنا حين نظنّ أنّ القانون وِعاء للعدل والحقّ، القانون هنا وِعاء لرغبة الحاكم، أو بدلة يُفصّلها على قياسه “، كما يقول الرّوائي و الإعلامي الأردني جلال الخوالدة :     ” يُلخّصون الوطن في قانون.. يضعون القانون في عُلبة.. ثمّ يضعون العُلبة في جيوبهم !! ” .

قد يتساءل البعض عن علاقة هذا الطّرح بما حدث سابقا، و يحدث في تونس حاليّا.. و هو ما سنتناوله من خلال قراءة تحليليّة للأحداث تمزج بين الرّؤية القانونيّة و الرّؤية الاجتماعيّة الواقعيّة و الوُجوديّة إن شئنا حيث من المعلوم أنّ القوانين هي نتاج حاجة مجتمعيّة بناءً على ما يطرحه الواقع المجتمعي من إشكالات على اختلاف الميادين و المجالات المعنيّة، و من هنا كانت القوانين تُسنّ لأجل الصّالح العامّ، و ما يتطلّبه من توفير الحماية و الأمن للفرد و للمجموعة من خلال تكريس الحقوق و الحريّات و إقرار الواجبات و إرساء مُقوّمات العدل و أسس العدالة، أملا في تحقيق الاستقرار و الأمان على جميع الأصعدة و ما يعقبه من تطوّر و رقيّ و ازدهار … تتحقّق معها جميع أصناف حقوق الإنسان جيلا بعد جيل، من هنا تكون مسئوليّة السّلطة في غاية الأهميّة، مهما اختلفت طبيعتها، تشريعيّة أو تنفيذيّة أو قضائيّة كانت، حيث تتحمّل السّلطة التّشريعيّة مسئوليّة جسيمة من خلال سنّها للقوانين و التّشريعات، كما تتحمّل السّلطة التّنفيذيّة مسئوليّة بالغة من خلال السّهر على حسن سير تطبيق القوانين و إدارة الشّأن العامّ، في حين تتمثّل مسئوليّة السّلطة القضائيّة في تحقيق العدل و إرساء العدالة من خلال تطبيق القانون على كلّ ما يدخل ضمن نطاق نظرها، بكلّ تجرّد و حياديّة و نزاهة و استقلاليّة إذ لا سلطان على القضاة في حكمهم إلاّ للقانون .

من هنا تتّضح الرّؤية و هي أنّ القوانين مبدئيّا تُمثّل الضّامن لاستقرار المجتمع و أمنه و ازدهاره عبر تكريس مبادئ العدل و قيم العدالة و المساواة و ضمان الحريّات و غيرها … لكن ماذا لو تحوّلت القوانين إلى وسيلة لتحقيق المنفعة الشّخصيّة، و أداة لحماية المصالح الفرديّة الضيّقة على حساب المصلحة العامّة و مصلحة المجتمع ككلّ ؟؟ لسائل أن يسأل في هذا الصّدد : و هل أنّ ذلك ممكن ؟؟ تأتي الإجابة واضحة صادحة بالحقيقة، نعم و أجل .. إنّه ممكن، إنّ القوانين قد تتحوّل إلى جلاّد ظالم مستبدّ يقصف كلّ من يقف في وجهه دون رحمة و لا شفقة و لا عدل و لا عدالة .. و لنا في النّموذج التّونسي من خلال ما شهدناه خلال العشريّة الأخيرة خير مثال، حيث أصبح المجلس التّشريعي أي مجلس نوّاب الشّعب يُصدر قوانين على المقاس و تحت الطّلب تنفيذا لرغبات هذا و ذاك من أصحاب الجاه و رؤوس الأموال و لوبيّات الاقتصاد و غيرهم من المتدخّلين في الشّأن العامّ من أصحاب السّطوة، حينها يُصبح القانون حبلا يضيّق الخناق على المجتمع و أفراده، فتضيق الحال و ترتفع الأسعار و يكثر الاحتكار و ينتشر الظّلم و تضيع الحقوق و تنتفخ بطون معدودة و تجوع أخرى عديدة، فتتنعّم البطون المنتفخة تحت حماية القانون و تتضوّر البطون الخاوية جوعا و خوفا من سطوة القانون.. حين تقف الدّولة عاجزة عن إنفاذ القانون خضوعا لسلطة ما فوق القانون، و التّي يكون مصدرها أشخاص يعتبرون أنفسهم أقوى من الدّولة و يعاضدهم في ذلك أشخاص من الدّولة حمّلهم الشّعب و الوطن مسئوليّة و أمانة فخانوها و خذلوا شعبهم.. حينها نكون ” على شفا جرف هار “، أجل إنّها النّهاية التّي قد لا تبقي و لا تذر… و هو ما كدنا أن نعيشه ابتداءً من يوم 25 جويلية 2021 عندما قرّرت الجماهير النّزول إلى الشّارع متحدّية الوضع الوبائي و القرارات و الإجراءات في علاقة بالوضع الصحّي في إطار مقاومة وباء كورونا، فلولا تدخّل رئيس الجمهوريّة في الوقت و بالكيفيّة المناسبتين لشهدنا أحداثا مأساويّة يوم 26 جويلية و ما بعده …

إلى هنا نصل إلى مربط الفرس، أو العُقدة أو المحور الذّي تدور حوله المواقف و الأحداث… إنّه القانون و مدى احترام الشّرعيّة و النّصوص و الدّستور و القواعد و غيرها من المصطلحات التّي تندرج ضمن هذا الإطار… فالكلّ يتكلّم باسم القانون و يؤسّس موقفه تأسيسا قانونيّا حسب زعمه، و يتشبّث بالنصّ حرفيّا و يُقارع و يُصارع … لا لأجل القانون رأسا و إنّما لأجل ما يحمله القانون من حماية لمصالحه حتّى و إن كانت في أصلها باطلة، و لم يتذكّر حينها أنّ القانون الذّي لا يحمي الشّعب، لا معنى له، و القوانين التّي تُفقّر الشّعب و تُجوّعه و تُعرّيه غير جديرة بالاحترام، و النّصوص التّي تُعطّل سير دواليب الدّولة و تُهدّد كيانها و استمراريّتها … لا حاجة لنا بها، و النّظام السّياسي الذّي يسمح باعتلاء الفسدة و المجرمين و الخونة، دفّة الحكم و لا يعكس الإرادة الشّعبيّة الحقيقيّة، و يُعمّق الأزمة في البلاد، لا نُريده بل و نسعى للإطاحة به… أليست إرادة الشّعوب هي الفيصل ؟ أليس الشّعب من يمنح و يسحب السّلطة ؟ فهل يكون الشّعب طيّبا و عمله محمودا إذا ما مَنَح، على شاكلة ما حدث في 2011، و يكون مذموما إذا ما سَحَب على شاكلة ما حدث من مطالب شعبيّة في 25 جويلية 2021 ؟؟؟

إنّ إرادة الشّعوب لا تُقهر و هو ما أثبته التّاريخ و أثبتته جميع تجارب البشريّة على مرّ العصور، فالشّعوب لا حاجة لها بقوانين لا تُحقّق لها طيب العيش، و لا حاجة لها بأنظمة حُكم تُنغّص عليها معيشتها و تقذف بها في دوّامة المجهول، و لا حاجة لها بِسُلطٍ تتعسّف على الحقّ و تُشرّع و تُنفّذ و تقضي لصالح حساباتها و رغباتها و منفعتها، و جدير بنا في هذا السّياق أن نذكر بعض الأمثلة التّي عايشناها من خلال سنّ قوانين تتعارض و المصلحة الشّعبيّة، حيث أنّ السّادة النّواب المجمّدون، و خلال مناقشتهم لميزانيّة الدّولة لسنة 2021، أسقطوا مقترحا يقضي بطرح الدّيون التّي تقلّ عن خمسة آلاف دينار في ما يخصّ صغار الفلاحين !! أيضا أسقطوا مقترحا لطرح الدّيون التّي تقلّ عن خمسة آلاف دينار لصغار الحرفيّين !! كما قاموا بإسقاط مقترح يقضي بإحداث صندوق لذوي الاحتياجات الخصوصيّة !! أضف إلى ذلك أنّ السّادة الأجلاّء رفضوا مقترحا لإحداث صندوق للمساعدة على خلفيّة فقدان العمل بمنحة تمتدّ لفترة ستّة أشهر !! هذا و تمّ رفض مقترح يقضي بإضافة جزء تعويضي للمتقاعدين ممّن اشتغلوا في القطاعات الهشّة حتّى تصبح الجراية 250 دينارا عوضا عن 180 دينارا !!  زد على ذلك أنّهم رفضوا مقترحا لقانون يتمتّع من خلاله كلّ مواطن بامتياز جبائي عند شراء السيّارة الأولى إن استطاع إليها سبيلا !! إلى جانب ذلك فقد رفضوا أيضا مقترحا يقضي بإعفاء الأعلاف المورّدة من المعاليم الديوانيّة !! أجل لا تتعجّبوا سيّداتي و سادتي.. فالقائمة لازالت طويلة .. لكنّهم في المقابل قد قاموا بإسقاط مقترح يقضي باقتطاع 0.5  بالمائة من أرباح الشّركات الماليّة قصد تعبئة ميزانيّة الدّولة لإحداث فرص شغل !! كما صادقوا على التّرفيع في أسعار عديد المواد الأساسيّة في علاقة بقوت المواطن البسيط الكادح !!! أيضا قد زادوا في الإكرام بأن صادقوا على التّخفيض في المعاليم المستوجبة على اليخوت و القوارب التّرفيهيّة !!! بحكم أنّها متاحة للجميع… ؟؟ !! هذا وقد كانوا قاب قوسين أو أدنى من إسقاط مقترح يقضي بتشغيل10 آلاف عاطل عن العمل كدفعة أولى ممّن يشملهم القانون عدد 38 لسنة 2020 لمن طالت بطالتهم !! حتّى أنّهم ألزموا على المواطن تسوية الوضعيّة الجبائيّة حتّى يتمكّن من خلاص معلوم الجولان الموظّف على السّيارات !! فما دخل هذا في ذاك ؟؟ كما لا يفوتنا أن نعلمكم هنا أنّ عدم تسوية الوضعيّة الجبائيّة ليس دائما ما يرتبط بالتهرّب الضّريبي و إنّما في غالب الأحيان يكون جرّاء الشّروط المجحفة و البيروقراطيّة و التّعطيل الإداري… خاصّة حيال المواطن البسيط الكادح…

أيضا بعض كرّاسات الشّروط التّي تُعدّ على المقاس، نذكر منها ما يتعلّق بمجال النّقل البرّي و نقل البضائع بخصوص الشّاحنات الثّقيلة، لنفترض أنّ أحد أفراد هذا الشّعب تحصّل على قرض و اشترى شاحنة ثقيلة لنقل البضائع و انطلق في عمله، و بعد مدّة حقّق أرباحا و أراد أن يُوسّع من مجال عمله و يشتري شاحنة ثانية، فإنّه سيصطدم هنا بكرّاس الشّروط الذّي يفرض عليه أن يقتني على الأقلّ 18 شاحنة !! أجل ثمانية عشر شاحنة بالتّمام و الكمال، و إلاّ فلا يمكنه سوى الاكتفاء بالشّاحنة الواحدة، و الغريب أنّ كرّاسات الشّروط هذه تدخل ضمن إطار النّصوص القانونيّة المنظّمة لقطاع ما، فهل أنّ هذه القوانين تخدم مصلحة الشّعب ؟؟ فمن الذّي يمكنه شراء 18 شاحنة ثقيلة دفعة واحدة ؟؟ سوى أصحاب رأس المال الكبير و الكبير جدّا، أليست هذه النّصوص و القوانين على مقاس فئة قليلة مُعيّنة ؟ أيضا مسألة الحصول على رخصة إيراد و تصدير فحدّث و لا حرج … و غير ذلك من الأمثلة كثير، أيضا ألا تكون الدّولة ناهبة لمال الشّعب تحت مسمّى القانون في ما يتعلّق مثالا بخلاص معلوم الجولان للعربات، لنفترض أنّ لأحدهم سيّارة معطّبة ماكثة في المستودع لا يستطيع أن يحرّكها و لو لبضعة أمتار، و ليس له مال لإصلاحها و ظلّت على حالتها تلك ثلاث سنوات، فلمّا سمحت له ظروفه الماليّة قام بإصلاحها و توجّه للقباضة الماليّة لخلاص معلوم جولان السّنة الجارية، سيُفاجئ بمطالبته بخلاص الثّلاث سنوات الخالية رغم أنّ السيّارة ليست في وضعيّة جولان!!  و لا يمكنه الحصول على وصل معلوم الجولان للسّنة الجارية إلاّ بخلاص معلوم السّنوات السّابقة، بربّكم هل مثل هذه القوانين جديرة بالاحترام و تخدم مصلحة الشّعب ؟؟ كلاّ و ألف كلاّ …

إنّ مثل هذه القوانين يمكن وصفها بالجرائم، أجل إنّها جرائم فظيعة و شنيعة في حقّ الشّعب و في حقّ الصّالح العامّ، فعندما تتنكّر الجرائم في ثوب القانون، يُصبح الحديث عن احترام القانون في غير محلّه بل إنّه يدخل ضمن باب النّفاق و الخداع، و حينما يضيق الحال و تفيض الكأس فإنّ الشّعب سيكسر القيد و يسقط ثوب القانون عن الجرائم المتنكّرة، و لا حديث عندها لا عن شرعيّة و لا عن نصوص و لا عن دساتير و إنّما ستكون العودة للسّلطة الأصليّة التّي وحدها لها المشروعيّة التّي تُؤسِّس للشّرعيّة، فشرعيّة غير مشروعة بمثابة السّرقة و مَسك المسروق، يخال النّاظر إليك أنّه ملك لك و لكنّك في الواقع سرقته من أحدهم، فمتى تمّ كشفك انتُزع منك و أُعِيد لمالكه الأصليّ، و هذا تحديدا ما حدث يوم 25 جويلية 2021، فقد تمّ كشف الجرائم المتنكّرة في ثوب القانون، و الانصياع لإرادة الشّعب الذّي كان ضحيّة هذه الجرائم، غير أنّ القضيّة يجب أن تستمرّ و لا بدّ من المحاسبة عبر محاكمة عادلة تُكفل فيها جميع الضّمانات القانونيّة.                                                   أسامة نور الدّين باسطي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: حقوق النشر و الطباعة محفوظة لمجلة الميزان
إغلاق