الجريمة المثارة ومشروعية إجراءات التتبع والمحاكمة – الأستاذ محمود داوود يعقوب
تعليق على القرار التعقيبي الجزائي عدد 49182 مؤرخ في 23 مارس 2004[1] و القرار الجزائي عدد 7163 الصادر بتاريخ 26/1/2006 عن محكمة الاستئناف بتونس[2]
أولا: تلخيص الوقائع:
تتلخص وقائع القضية التي صدر فيها القرار التعقيبي المذكور أعلاه في أن أعوان فرقة مكافحة المخدرات وأثناء استجوابهم احد المتهمين ( وهو المدعو و) اعترف بأنه تزود بالمادة المخدرة من شخص أخر(المدعو خ) ولغاية إلقاء القبض على هذا الأخير نصب له كمين وتم إلقاء القبض عليه وبحوزته مادة مخدرة اعترف بدوره انه اقتناها من شخص ثالث (المدعو م) ولضبط هذا الشخص قام احد أعوان الأمن بالتوجه اليه برفقة المقبوض عليه الثاني لشراء مادة المخدر فتصادف وجود شخص أخر بصدد اقتناء نفس المادة وهو (المدعو س) إلا أن بعض متساكني المنطقة نبهوا (المدعو م) إلى وجود اعوان الامن فلاذ بالفرار وتخلص من قطعة المخدر فأحيل جملة المتهمين على الدائرة الجنائية بالمحكمة الابتدائية بتونس فقضت عليهم بالسجن مددا مختلفة فطعنوا بالاستئناف وتمسك دفاع (المدعو س) بعدم مشروعية الإجراءات لاستخدام أعوان الأمن احد المتهمين كطعم للإيقاع بالبقية في كمين إلا أن محكمة الاستئناف لم تلتفت إلى هذا الدفع وأقرت حكم البداية من حيث مبدأ الإدانة فطعن دفاع المتهم بالتعقيب وتمسك ببطلان الإجراءات.
أما وقائع القرار الاستئنافي فهي تتمثل في بلوغ معلومات إلى أعوان الفرقة المركزية لمكافحة المخدرات حول تورط شخص (المدعو س) في ترويج مادة مخدرة صحبة شقيقه (المدعو ح) وشخص ثالث (المدعو و) وذلك بجهة المروج وحمام الشط.فقام أحد أعوان الفرقة بالاتصال بالمدعو( س) هاتفيا والاتفاق معه على موعد يوم 15/7/2004 على الساعة الثامنة ليلا بمأوى سيارات وفي الموعد قدم المدعو (س) صحبة (المدعو أ) وتم أركابهما في سيارة والتأكد من وجود المخدر بعد عرضه على المشترين الذين لم يكونوا سوى أعوان الأمن فتم إلقاء القبض عليهما و حجز كمية من المخدرات.
من خلال وقائع هاتين القضيتين فإن السؤال المطروح هو هل من حق أعوان الضابطة العدلية استخدام أي وسيلة بما في ذلك الخداع أو التحريض للإيقاع بالمظنون فيهم عن طريق استثارت الجرائم أم أن عملية البحث والتتبع مقيدة بقاعدة النزاهة في البحث عن الأدلة؟
ثانيا: مبدأ القرارين:
1- مبدأ القرار التعقيبي:
<<إن محامي الطاعن تمسك لدى محكمة القرار ببطلان إجراءات التتبع استنادا إلى ما ثبت من استعمال باحث البداية لأحد المتهمين وهو (المدعو خ) للإطاحة واستدراج باقي المظنون فيهم للإيقاع بهم في قضية الحال والتي تعتبر من قبيل الجريمة المثارة باعتبار وان الباحث هو الذي عمل على إثارة عملية الاتجار في المادة المخدرة بإيعازه للمتهم (المدعو خ) للمطالبة بشراء المادة وهو ما يتجاوز المأمورية التي أناطها المشرع بعهدته والمتمثلة في معاينة الجرائم لا إثارتها والتحريض على وقوعها… وحيث لم ترد محكمة الأصل على هذا الدفع الشكلي رغم أهميته وتأثيره على وجه الفصل في القضية هذا علاوة عن تعلقه بالنظام العام بما يعيب القرار المنتقد بضعف التعليل وهضم حقوق الدفاع…>>.
2- مبدأ القرار الاستئنافي:
<< وحيث ومن جهة أخرى وما تمسك به لسان الدفاع من بطلان الإجراءات فإن الجريمة الموجهة لا تكون متوفرة إلا إذا كان ركنها المعنوي موجها من طرف الباحث أما إذا كان هذا الركن موجودا من قبل بذهن الجريمة الجاني واقتران بفعل مادي وذلك بان خطط لاقتناء المادة المخدرة وأخذ يبحث عن المشتري وذلك بغرض الاتجار و إن دور الباحث الابتدائي اقتصر دوره على الإيقاع بالمتهم عبر حثه على الظهور والتعرف عليه دون ان يكون في ذلك تأثير على إرادة المتهم >>.
ثالثا: الملاحظات :
إن أول ما يمكن ملاحظته على القرار التعقيب هو أن محكمة التعقيب ورغم اتخاذها موقف ايجابيا وسليما من الناحية القانونية إلا أنها وللأسف لم تنقض القرار الاستئنافي لخرقه القانون وإنما فقط لضعف التعليل و هضم حقوق الدفاع وهي أمور شكلية لا جوهرية رغم أن الأمر يتعلق بجوهر أعمال البحث والتحقيق ومشروعية الحصول على الدليل.
وعلى كل حال فإن هذه النقطة وإن كان من شأنها أن تحد من قيمة القرار التعقيبي محل الملاحظة إلا أنها لا تفقده كل قيمة خاصة وأن محكمة الاستئناف بتونس في قرارها المذكور أعلاه[3] تعتبر أن اللجوء إلى إثارة الجريمة من طرف باحث البداية أمر مشروع اعتمادا على أن الجريمة بركنها المعنوي كانت متوفرة قبل إثارتها من طرف الباحث في ذهن الجاني و اقتصر دور الباحث الابتدائي على الإيقاع بالمتهم عبر حثه على اقتراف الركن المادي و الظهور للتعرف عليه وهذا ليس له أي تأثير على إرادة المتهم.
وأمام مثل هذا التعليل لقضاة الأصل فإن موقف محكمة التعقيب كان من المستوجب أن يكون أكثر وضوحا وتركيزا على الأصل لا على الشكل بالنظر إلى أن النصوص القانونية والقواعد الدستورية تحول دون إمكانية الركون إلى دليل تم الحصول عليه بطريقة تخلو من أبسط قواعد النزاهة والمشروعية خاصة وأن النصوص القانونية ضبطت بدقة دور أعوان الضابطة العدلية (الجزء الأول) كما أن قرينة البراءة المكرسة دستوريا تستوجب النزاهة في البحث عن الأدلة (الجزء الثاني).
الجزء الأول: دور أعوان الضابطة العدلية البحث عن الأدلة لا خلقها:
حدد المشرع في الفصل 9 م ا ج مهام الضابطة العدلية بأنها :<<مكلفة بمعاينة الجرائم وجمع أدلتها والبحث عن مرتكبيها وتقديمهم للمحاكم ما لم يصدر قرار في افتتاح بحث>>.
و يتضح من هذا الفصل ان أعوان الضابطة العدلية لا حق لهم في خلق جريمة بناء على شكوك وذلك من خلال تحريض شخص وإقناعه باقتراف ممنوع.
وإن حصل وقام أعوان الضابطة العدلية بخلاف ذلك فإنهم في الحقيقة يخلقون فكرة الجريمة في ذهن المتهمين ويحثونهم من خلال إغرائهم بالمال والربح الوفير على سلوك مسلك الإجرام. وتزداد مخالفة القانون عظما عندما يكون الشخص محل التحريض نقي السوابق العدلي وليس له أي ملف إجرامي يبرر تحريضه فغياب السوابق الإجرامية يجعل أي تعليل سيصدر عن محاكم الأصل بان أعوان الضابطة انما فقط أثاروا الركن المادي في حين أن الركن المعنوي كان قائما في ذهن المظنون و ما قام به أعوان البحث هو حثه على الظهور فقط. لا يمكن التسليم به على اعتبار أن النفس أمارة بالسوء وإغراء المال والطمع في الثروة السريعة وهي أمور من شأنها أن تسهل اقتناع عديد الأشخاص بالقيام بفعل غير مشروع وبالتالي سلوك مسلك الجريمة وتزداد هذه السهولة عندما يكون الشخص محدود التعليم وعاطلا عن العمل كما هو حال العديدين فيسهل إقناعه بالقيام بأعمال غير مشروعة خاصة عندما يؤمن له الطريق و يزين أمامه بالمال الوفير والثروة السهلة السريعة.ويكون عندها أعوان الضابطة العدلية قد تجاوزوا مسألة حث المجرم على الظهور ليصل الأمر حد دفعه نحو الجريمة وتزينها في ذهنه وحثه نحو التفكير فيه والقيام به. فيكونون والحال ما ذكر هم من خلق الجريمة بركنيها المادي والمعنوي ودفعوا بشخص بريء متمتع بقرينة البراءة الدستورية نحو اقترافها بغاية الإيقاع به. وعنده فمن المفروض أن يكون الوصف القانوني السليم لما قام به أعوان الضابطة العدلية هو أنهم ارتكبوا جريمة المشاركة السابقة على معنى الفقرة الأولى من الفصل 32 م ج الذي يجرم كل فعل يتمثل في حث الفاعل على القيام بجريمة من خلال العطايا والمواعيد. و لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعتبر فعل إجرامي وسيلة مشروعة في البحث عن الأدلة.
وعلاوة عما سبق فإنه من الثابت ان أعوان الضابطة العدلية لا يمكن لهم البدء في أي إجراء إلا بعد التعريف بأنفسهم وإنذار الشخص بأنه أمام سلطة تتبع. و إذا لم يكن بالإمكان الإيقاع به أثناء اقترافه للجرم بإرادته الحرة المدركة الواعية فإنه لا مجال لحثه على الإجرام حتى يقع الإيقاع به. والإرادة الحرة المدركة الواعية هي جوهر الركن المعنوي ولا قيام للمسؤولية الجزائية دون توفرها وهو ما كرسته محكمة التعقيب في قرارها الصادر بتاريخ 7 ماي 2003[4] حين اعتبرت أنه:<<من الأركان الجوهرية لقيام المسؤولية الجنائية في الجرائم القصدية أن يرتكب الجاني جريمته عن قصد أي عن إرادة حرة وإدراك تام وتمييز… >>.
كما لا يمكن أن تكون الخطورة الإجرامية لدى الشخص مبررا لتحريضه فهي لا تلعب أي دور إلا في مرحلة ما بعد الإدانة وعند البحث في تقدير الجزاء المناسب لشخصه (تفريد العقاب) وتلك مرحلة لاحقة على ثبوت الجريمة وثبوت نسبتها إليه وبالتالي فلا يمكن ان تعتمد كمبرر لحثه على الإجرام. و إذا كانت المصلحة الاجتماعية تتطلب إدانة المجرمين ومعاقبتهم وأخذهم بالجزاءات اللازمة فان مبدأ البراءة وهو الأصل في كل إنسان يقف حجرة عثرة أمام أي إجراء غير مشروع و حاميا لحريات الأبرياء من الاعتداء إلى أن يصدر حكم يثبت الإدانة على وجهها القطعي واليقيني.
الجزء الثاني: قرينة البراءة تستوجب النزاهة في البحث عن الأدلة:
شعورا من المشرع بان المادة الجزائية تنال من حرية الإنسان وسلامة بدنه وماله فقد كسا الإثبات في المادة الجزائية بأهمية قصوى وكان من اللازم تحقيقا للعدالة وضمانا لكرامة الإنسان وتأمين استقراره النفسي ان يقر وجوب أن يسند الفعل الاجرمي للمتهم بصفة جازمة لا يشوبها شك او احتمال حتى إذا انزل عقاب على شخص بعد ثبوت أدانته كان اقتصاص المجتمع منه في محله وتحقق بذلك هدف العقوبة. وإنطلاقا من جملة نصوص قانونية ومبادئ عامة يمكن القول أن من شروط مشروعية الدليل لكي يكون مقبولا في المادة الجزائية ان تتوفر فيه بعض الشروط ومنها:
§ ان يكون مشروعا وهذا الشرط يعتبر قاعدة كلية كرستها جملة فصول مجلة الاجراءات الجزائية.
§ ان يتم الحصول على الدليل بأسلوب يضمن للمظنون فيه فرصة درء التهمة عن نفسه أو الاعتراف بها وهو في كامل حريته وبمطلق إرادته (الفقرة السابعة من الفصل 69 م ا ج).
§ ان يكون الدليل يقينيا ومؤسسا على أدلة صحيحة ذلك ان الأصل في الإنسان البراءة فالشك ينتفع به المتهم.
فهذه الشروط تتماشى وما جاء بالفصل 12 من الدستور الذي اعتبر ان ” كل متهم بجريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته في محاكمة تكفل له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عن نفسه ” فمهمة الأطراف المكلفة بالإثبات الجنائي ليست فقط إثبات التهمة على المظنون فيهم بل تتجاوز ذلك إلى البحث عن الحقيقة أي أن دورهم يشمل البحث بنزاهة عن جميع أدلة الدعوى سواء في النفي أو الإثبات .
و الدليل المستمد من عملية تحريض أو إثارة سيكون خاليا حتما من هذه الشروط لذا فهو غير مقبول و من واجب القضاة أن يصرحوا ببطلانه ولا يعطونه أي وزن في الإثبات عملا بأحكام الفصل 199 من م.إ.ج الذي نص صراحة على أنه: “تبطل كلّ الأعمال والأحكام المنافية للنصوص المتعلّقة بالنظام العام أو القواعد الإجرائية الأساسية أو لمصلحة المتّهم الشرعية والحكم الذي يصدر بالبطلان يعيّن نطاق مرماه”.
وفي حالة لجوء باحث البداية إلى أسلوب الخداع أو التحريض على ارتكاب الجريمة(أو حتى أسلوب الكمين ) كما هو الحال في القضيتين اللتان صدر فيهما القرارين محل التعليق فإن البطلان يكون مطلقا لتعلقه بالنظام العام و تجوز إثارته ولو لأوّل مرّة أمام محكمة التعقيب طالما أن هناك مساس بالإجراءات الأساسية و خرق للنصوص القانونية التي يتعيّن على باحث البداية احترامها إثناء تأدية مهامه.وطالما أنه من أهمّ آثار البطلان تجريد العمل الإجرائي من أيّ قيمة قانونية فالحكم ببطلان الإجراء المعيب من المفروض أن يؤدي إلى إبطال جميع الإجراءات الأخرى اللاحقة له متى كانت هاته الإجراءات مترتّبة عنه ومرتبطة به ارتباطا مباشرا وهذا الأمر يمثّل نتيجة منطقيّة فما بني على باطل فهو باطل.
وعلى اعتبار أن قرينة البراءة هي الضامنة للحق في المحاكمة العادلة بل إن هذه الأخيرة نتيجة حتمية من نتائج أصل البراءة الكامن في الإنسان وتبعا لذلك فان أي اعتداء على شخص لتوريطه في إدانة نفسه أو لانتزاع تصريحاته بطريقة غير إرادية يؤدي إلى خرق هذا الضمان ويترتب عنه بطلان الإجراءات مهما كانت المرحلة التي وصلت إليها المحاكمة. فالحماية التي توفرها قرينة البراءة للإنسان لا ترفع إلا بحكم قضائي بات كفلت فيه حقوق الدفاع أي بموجب محاكمة عادلة. فالحق في المحاكمة العادلة يرمي لحماية الأشخاص من أية محاولة لإساءة استغلال إجراءات التقاضي الجزائي لإيقاع الأذى بهم وجعل كل من باحث البداية وسلطات التحقيق والقاضي يقومون بأداء واجباتهما في إطار من النزاهة وباقتدار مهني سعي وراء الكشف عن الحقائق بدقة و صدق ومشروعية.
ويترتب عما سبق وجوب أن يتم البحث عن وسيلة الإثبات بعيدا عن المس بقواعد النزاهة في البحث عن الأدلة.كما أن المبدأ الذي بمقتضاه لا يمكن لأحد ان يتهم نفسه بنفسه مستنتج أيضا من المبدأ العام الذي يفرض انه لا يمكن إكراه أو إرغام شخص على أن يكون مباشرا لسلطة الاتهام ضد نفسه. وحظر إكراه المتهم على الشهادة ضد نفسه أو الإقرار بذنبه هو مبدأ يتسع ليشمل منع السلطات من القيام بأي شكل من أشكال الإرغام سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، بدني أو نفسي[5]. و ينطبق هذا الحق على جميع المراحل السابقة للمحاكمة وأثناء المحاكمة على السواء فقد أعلنت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان[6]أن الإكراه على تقديم المعلومات أو الإرغام على الاعتراف أو انتزاع الاعترافات تحت وطأة التعذيب أو سوء المعاملة كلها أمور محظورة وقالت اللجنة المذكورة إن “نص المادة 14(3)(ز) من العهد الدولي – أي لا يكره أي شخص على الشهادة ضد نفسه أو على الاعتراف بذنب – يجب أن يفهم على أنه حظر لاستخدام أي ضرب من ضروب الضغط المباشر أو غير المباشر البدني أو النفسي من جانب سلطة التحقيق ضد المتهم بهدف الحصول منه على اعتراف بالذنب. ومن غير المقبول مطلقاً معاملة المتهم على نحو يخالف المادة 7 من العهد (الدولي) من الاتفاقية من أجل انتزاع اعتراف.” و انطلاقا مما تقدم بسطه يمكن اعتبار قرينة البراءة التي يتمتع به كل شخص طيلة المرحلة السابقة لصدور حكم بات بالإدانة كأبرز مظاهر الدفاع التي يتمتع بها. وتعد هذه القرينة بمضمونها ضمانة هامة و مطلقة من ضمانات الحرية الشخصية للفرد ضد تعسف السلطة يستفيد منها كل شخص سواء كان من ذوي السوابق أم كان مبتدأ أو من طائفة المجرمين بالصدفة[7] طالما أنه من المفروض أن يبقى الإنسان محميا بجملة الضمانات التي يوفرها له الدستور و المواثيق الدولية وقانون الإجراءات الجزائية. وتعني قرينة البراءة اعتبار كل فرد مهما كان وزن الأدلة أو قوة الشكوك التي تحوم أو تحيط به بريئ هكذا ينبغي ان يعامل وهكذا ينبغي ان يصنف طالما ان مسؤوليته لم تثبت بمقتضى حكم صحيح Régulier ونهائي définitive صادر عن القضاء المختص[8]. ومعنى ذلك أن الحق في افتراض البراءة ينطبق على معاملة الشخص لا أمام المحكمة و في مرحلة تقييم الأدلة فحسب، بل ينطبق أيضاً على معاملته قبل المحاكمة أي على المشتبه فيهم قبل اتهامهم رسمياً بارتكاب أية جريمة تمهيداً لتقديمهم للمحاكمة[9] و بالتالي فإن كل اعتداء على شخص سواء كان هذا التعدي ماديا من خلال توريطه عن طريق كمين او معنويا من خلال خلق فكرة الجريمة في رأسه يعتبر خرقا صارخا وواضحا لهذه الضمانة يستوجب بطلان الإجراء المبني على الاعتداء عليه او التنكر له وهو ما يعتبر تطبيقا سليما وصحيحا لمقتضيات الفصل 199 من مجلة الإجراءات الجزائية حفاظا على مصلحة المتهم الشرعية. ويعرّف البطلان بكونه: الجزاء الذي يهدف إلى سلب العمل الإجرائي المعيب فاعليته في إحداث آثاره القانونيّة لمخالفته للأحكام القانونيّة الشكليّة أو الموضوعيّة المستوجبة[10]. فإعمال الضمانات القانونية والدستورية وعلى رأسها قرينة البراءة يستوجب منع اللجوء إلى الانتهاكات الجسدية والذهنية[11] و ليس للباحث أو القاضي ان يستخدم وسائل غير قانونية لغاية الاقتناع بإدانة متهم[12]. باعتبار أنه من أوكد واجباته أن يحافظ على المبادئ الدستورية وقواعد الحريات وذلك من خلال نقل مبادئهما وأسسهما الواجبة الاحترام إلى الواقع العملي وهو ما يتطلب منه البحث عن الحقيقة إدانة او براءة واعتماد وسائل الإثبات المشروعة والبراهين والأدلة المتحصل عليها طبق القانون و التي تدل على أن شخص ما دون سواه هو المرتكب للجريمة وهذا بطبعه لن يكون إلا وفقا للقانون وتبعا لما أتت به التشريعات وإلا كانت جميع الإجراءات باطلة طبق أحكام الفصل 199 م ا ج.
ويستخلص من كل ما سبق أن موقف محكمة الاستئناف بتونس في قرارها محل التعليق يتعارض مع المبادئ القانونية والدستورية كما أن موقف محكمة التعقيب رغم وجاهته قانونا إلا أنه يفتقر للقوة اللازمة للاقتناع به والنسج على منواله فهو مبني على الشكل لا على الاصل رغم تعدد ووضوح القواعد المكرسة لمبدأ النزاهة في البحث عن الادلة في التشريع التونسي.
الهوامش
[1] ) منشور في المجلة القانونية التونسية لسنة 2004 ص179 ومابعدها.
[2] ) غير منشور.
[3] ) قرار استئنافي جزائي عدد 7163 صادر بتاريخ 26/1/2006 عن محكمة الاستئناف بتونس. غير منشور.
[4] ) الصادر تحت عدد 31598 نشرية محكمة التعقيب لسنة 2003 ص 325.
[5] ) أنظر: منظمة العفو الدولية، دليل المحاكمات العادلة 2005. ص 123
[6] ) أنظر: منظمة العفو الدولية، دليل المحاكمات العادلة. سبق ذكره. ص 81.
[7] -Crim 9 mai 1908 D.P. 1909 .I 133
-Crim 12 Février 1912 .D.P 1912.I. 32
.-Crim 3 Octobre1941 D.P1942 I. 82
[8]-MERELE ( R ) VITU ( A ) : Traité de droit criminel ( procédure pénale .
[9] ) أنظر: منظمة العفو الدولية، دليل المحاكمات العادلة. سبق ذكره. ص 119
[10]) محمّد محمود الشركسي : ضمانات المتّهم خلال مرحلة التحقيق الابتدائي و المحاكمة ، أطروحة دكتوراه دولة في القانون ، كلّية الحقوق والعلوم السياسيّة بتونس 1993 ، ص 246 . وفي هذا الاتجاه تجدر الإشارة إلى أحكام الفصل 171 م.ا.ج فرنسيّة المنقّح بمقتضى قانون 24/08/1993 ” كلّ إهمال لشكلّية جوهرّية منصوص عليها بهذه المجلّة أو بأحكام القوانين الإجرائية الأخرى يمسّ من مصالح الطرف المعني بها ، يرتّب البطلان ” : Il ya nullité lorsque la méconnaissance d’une formalité substantielle prévue par une disposition au présent code ou toute autre disposition de procédure pénale a porté atteinte aux interêts de la partie qu’elle concerne .
[11] ) أنظر في هذا المنع الفصول101 و101 مكرر و102 و 103 م ج ونصها: الفصل 101 : يعاقب بالسجن مدة خمسة أعوام وبخطية قدرها مائة وعشرون دينارا الموظف العمومي او شبهه يرتكب بنفسه او بواسطة الاعتداء بالعنف دون موجب على الناس حال مباشرته لوظيفته او بمناسبة مباشرتها. الفصل 101 مكرر فقرة أولى:<<يعاقب بالسجن مدة ثمانية أعوام الموظف العمومي أو شبهه الذي يخضع شخصا للتعذيب .وذلك حال مباشرته لوظيفه أو بمناسبة مباشرته له…>>. الفصل 102 : يعاقب بالسجن مدة عام وبخطية قدرها اثنان وسبعون دينارا الموظف العمومي او شبهه الذي يدخل دون مراعاة الموجبات القانونية او دون لزوم ثابت لذلك مسكنا دون رضاء صاحبه. الفصل 103 : يعاقب بالسجن مدة خمسة أعوام وبخطية قدرها مائة وعشرون دينارا الموظف العمومي الذي يعتدي على حرية غيره الذاتية دون موجب قانوني او يباشر بنفسه او بواسطة غيره ما فيه عنف او سوء معاملة ضد متهم او شاهد او خبير للحصول منهم على إقرار او تصريح اما اذا لم يقع الا التهديد بالعنف او بسوء المعاملة فالعقاب يحط إلى ستة اشهر.
[12]-LAKHOUA ( M.H) : la loyauté dans la recherche de la preuve, thèse,Paris, 1973.