القانون الخاص

ضوابط قسمة التركات – القاضي منصور شلندي

1-بوفاة العزيز يذرف الدمع فرقا أو رياء، و يقيم الأهل عزاء، فتجتمع العائلة أياما، لا يذكر فيها الإرث إلا لماما، من خوف اتّصاف بالطمع، و غلظة قلب و شدّة جشع. و تمضي أيام و تهدأ النفوس، و تسكن العقل الفلوس، من زوجة ابن لامزة، و همسة صهر هامزة، و عين بأثرة فائزة، فيبتدئ الحديث خجِلا، ويشتدّ التوتر عجلا، من ذَكَر في الأرض راغب، و أنثى ذات زوج مشاغب. فترى الورثة يختصمون، يبرمون القسمة ثم إياها ينقضون، فهذا شاعر أن حقه هضم، و منابه من الحيف ما سلم ، و ذاك يظهر بقواعد القسمة عِلما، و يصف غيره بأنه دونه فهما، فيتهافت الكل حجزا للتركة، و تحضيرا للمعركة. “وبالرغم من أن انتقال ملكية التركة يحصل قانونا عند الوفاة، فإن العوام يحسبون أن الانتقال موقوف على إتمام القسمة على مرأى من أعينهم، مما يفسّر اشتداد النزاعات عندئذ و كأن حدث القسمة شبيه بواقعة الموت في تأزيم الوفاق الأسري” ، فتنشب الخلافات رغم أن الحق في قسمة الميراث موضوع قرآنا بقوله جل و تعالى “وإذا حضر القسمة أولوا القربى … فارزقوهم منه و قولوا لهم قولا معروفا “، و هي قسمة ينال بموجبها كل وارث منابه “مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا”، إلا أن النفس البشريّة المتسمة بالأثرة و حب الذات، تتجاهل القواعد الشرعية ناهيك عن القواعد الوضعية، سعيا نحو الانفراد بالملكية.


2- و قد كان المشرع التونسي فطنا بطبيعة حق الملكية فعرّفه بأنه ” الحق الذي يخول صاحب الشيء وحده استعماله و استغلاله و التفويت فيه”. و قد أجمع الفقه على الصبغة الفردية لحق الملكية الذي يجعل المشترك فيه برما بحاله خاصة إذا كان اشتراكه فيه غير إرادي.


3- و قد أكدت أغلب التشاريع على الصبغة الفردية لحق الملكية، إذ تعد الملكية المشتركة استثناء من خاصية الاستئثار و للطابع الفردي لهذا الحق ، و هو ما يؤدي إلى اعتبار الشيوع وضعية استثنائية مآلها الطبيعي الزوال . و يعرف المشرع الشيوع بالفصل 56 من م ح ع بأنه ” اشتراك شخصين أو أكثر في ملكية عين أو حق عيني غير مفرزة حصة كل منهم”، و يقسم الشيوع إلى شيوع دائم من قبيل الحائط المشترك، و شيوع وقتي و هو حال التركة.


4- لم يعرف المشرع التونسي التركة التي استعمل لفظة الإرث رديفا لها ، و قد استقر الفقه على اعتبارها متكونة من جميع العناصر الإيجابية و السلبية المنضوية في الذمة المالية للهالك، فهي تتكون من الأموال سواء منقولات أو عقارات، و من العناصر السلبية من ديون.


5- و نظرا للطبيعة غير الإرادية لاشتراك الورثة في تملك أعيان التركة، تكون النزعة إلى طلب التحرر ملحة، مع اقتران ذلك برغبة جامحة في انتقاء الأعيان، و هو ما يؤول إلى حدوث تصادم بين الورثة، فالذكور يستندون إلى عادات و أعراف مخالفة للقانون يرونها تخولهم الحصول على الأعيان مقابل منج الإناث مبالغ نقدية تضمن عدم خروج العقار إلى الأصهار و عدم دخول ” البراني ” إلى ملك العائلة، باعتبار هيمنة النظرة الذكورية التي ترى التملك مسندا إلى زوج البنت، و لو كانت البنت حازمة. و هو ما يؤدي إلى نشأة الصدام و تمسك كلّ بمعايير للقسمة يغلب عليها التناقض، تؤدي إلى بقاء الحال على ما هو عليه، و هو أمر قد ينتفع به من يضع يده على التركة و يتصرف فيها أو يستغلها، و لكنه من الناحية الاقتصادية قد أدى إلى انتشار الملكية الشائعة التي سمح استمرارها لمدة طويلة بتزايد عدد الشركاء بسبب وفاة بعضهم و حلول ورثتهم محلهم، و هو نظام فاسد يؤدي إلى غياب المبادرة الفردية و يعرقل تداول الأموال فيقل بذلك الإنتاج.


6- غير أنه حتى ولو اجتمعت إرادة الورثة على إجراء القسمة، قد توجد عراقيل على المستوى العملي أهمها تجمد الرسوم العقارية للعقارات المكونة للتركة، و استهلاك التركة لمصاريف طائلة ناجمة عن الاختبارات و هي أسباب تجعل الوارث يحجم عن طلب القسمة، فوارث منفرد قد لا يستطيع مجابهة تسبيق المصاريف رغم أن المحكمة تحكم له باسترجاع ما بذله في ما يزيد عن منابه. فيلتجئ الورثة إلى إجراء عمليات قسمة رضائية تغلب عليها العشوائية و عدم المساواة، باعتبار أن التقاسيم و خاصة في ما يخص العقارات و هي جوهر التركة، لا تكون مجراة بطريقة فنية و وفق ضوابط تضمن حماية المال و مالكيه. فتشتت الأموال و تفقد من قيمتها لعدم احترام المعايير القانونية، سواء لجهل بها أو لرغبة في تجاهلها. و لعل البعض يتوهم أن القسمة الرضائية لصفتها تلك، تكون أصلح لجمع الورثة و التركة لتمامها بإقبال الورثة و اتفاقهم، إلا أن هذا التفاهم لا يعدم أن يضر بمصلحة الورثة أو التركة، لقيام عملية القسمة على أحد خيارين: إمّا تنازل البعض من الورثة أمام هيمنة البعض الآخر الذين يستأثرون بأحسن الأعيان، و إما إفراط في المساواة يؤدي إلى تجزئة كل الأعيان بما يضيع قيمتها و يضر بمالكيها. و هي وضعية قد يصبح تفادي آثارها مستحيلا، سواء بمرور أجل دعوى نقض القسمة إن لم يتفق على ذلك وديا، أو لتعلق حق الخلف العام أو الخاص للمتقاسم بالمناب، أمام هذه الوضعية لا مناص من التساؤل عن الضوابط القانونية التي جعلها المشرع لقسمة التركات و التي تكفل مصلحة الورثة و التركة في ذات الآن و التي تبرز قيمتها أثناء القسمة القضائية.


7- لقد أفرد المشرع التونسي قسمة التركات بالقسم الثاني من الباب الخامس المتعلق بانقضاء الشيوع، و لم يمنع انطباق بعض القواعد العامة الخاصة بقسمة المال الشائع بصفة عامة على قسمة التركات، و هو ما نتج عنه وضع حملة من المعايير التي تقيد قسمة التركة ( قسم أول)، و لكنها لم تحرم المحكمة من حرية و سلطة تقديرية توجه بهما القسمة ( قسم ثان).

لتحميل المقال كاملا عبر الرابط التالي :

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: حقوق النشر و الطباعة محفوظة لمجلة الميزان
إغلاق