• مقدّمــــــــــــــــــــــة:
كثيرا ما يلجأ الناس إلى أصحاب الحرفة كالنجارين واللحّامين والحدادين وذلك من أجل طلب إنجاز عمل لفائدتهم يتنزّل في إطار القيام بإضافات إما ضرورية أو تحسينية لمنازلهم؛ فهذا يرغب في إنجاز شباك حديد وذاك يرغب في صناعة أثاث المنزل والآخر يريد أن تصنع له طاولة من الحديد إلخ…
ومن المسائل المعهودة والمتداولة عرفا هو قيام صاحب الحرفة بطلب تسبقة مالية بعد التراضي والاتفاق مع طالب الخدمة، والتي تتنزّل في إطار التعبير عن جديّة المطلب وتكون أيضا بمثابة عربون يستغلّه صاحب الحرفة كي يشتري بها المواد الخام لفائدة طال الخدمة.
إلا أنه وفي الآونة الأخيرة أصبحنا نلحض كثيرا مسألة عزوف صاحب الحرفة على اتمام ما التزم به أمام الحريف إلى درجة أنه يبقى مدّة طويلة من الزمن دون أن ينطلق حتى في انجاز المطلوب الأمر الذي يؤدّي بالحريف إلى الغضب واليأس بعد أن يتوجّه لهذا الأخير عديد المرات من أجل حثّه على انجاز المطلوب ولكن دون جدوى ثم يصل الأمر في الأخير إلى قيام الحريف بالعدول عن الاتفاق وطلب إرجاع التسبقة المالية وهنا تكون المفاجأة..
إذ يعبّر صاحب الحرفة عن استعداده لإرجاع المبلغ ولكنه لا يقوم بذلك أيضا وبالتالي فلا هو أنجز المطلوب منه ولا هو أرجع المال الذي بقي بحوزته بدون موجب فيبقى الحريف في حيرة من أمره وتمر الأيّام دون أي نتيجة تذكر إلأى درجة أن المسألة يمكن أن تستغرق سنين من الدهر على تلك الشاكلة فما الحل إذا؟ …
يمكن القول بأن صاحب الحرفة الذي يتصرّف بهذه الطريقة يكون عرضة للمساءلة القانونية الجزائية وبالتالي يصير مرتكبا لجريمة : “تسلّم مال على وجه التسبقة وعدم انجاز ما اتفق عليه” وهي الجريمة المنصوص عليها بالفصل 298 من المجلة الجزائية.
والسؤال المطروح هنا كيف يمكن تتبع صاحب الحرفة جرّاء ما اقترفه من جرم؟
1- الـــــــــــــــــــتتبع الـــــــــــــــــــــجزائي:
نص الفصل 298 م.ج. على أنه : “يعاقب بالسجن مدّة 6 أشهر وبخطية قدرها 72 دينارا كل من تسلّم مالاعلى وجه التسبقة لأجل العمل باتفاق ويمتنع دون موجب من العمل بما وقع به الاتفاق أو إرجاع ما قبضه سلفا”.
وبالتالي فإنه يجب أن تتوفّر شروط قانونية لقيام هذه الجريمة وإقرارها قبل تسليط العقوبة المناسبة لها فما هي هذه الشروط؟:
تنقسم هذه الشروط إلى شروط إيجابية وأخرى سلبية.
—/// الـــــــــــــــــشروط الإيجابية
أ- الشرط الأول: وجود اتفاق حقيقي بين الطرفين:
أي أن يكون صاحب الحرفة قد أبدى قبوله بأن يصنع شيئا طلبه منه الحريف وهو ما يقتضي بالضرورة تسلّم مواصفات ذلك الشيء من صاحبه (القياس، نوع الصنع، طبيعة المادة التي سوف يصنع منها الشيء، الجودة المطلوبة) وهي كلها تدخل في إطار ضبط الاتفاق وإبراز ملامحه والتراضي في شأنه بالتعبير عن الإيجاب والقبول.
ملاحظة: إن مجرّد تقليب المنتوج أو السؤال عن بعض التفاصيل مع الوعد بتقديم طلب في إنجاز شيء ما من طرف الحريف لا يعتبر إلتزاما ولا يؤدّي إلى القول بوجود اتّفاق.
ب- الشرط الثاني: الاتفاق على الثمن النهائي:
من الضروري أن يكون للاتفاق تحديد للثمن النهائي له وهو عبارة عن الكلفة الكاملة للشيء المطلوب إنجازه حيث يدخل في إطار تحديد الكلفة تكلفة السلعة واليد العاملة مع دقة العمل والصنعة والمدّة الزمنية التي تحتاجها).
ملاحـــــــــــــظة: * يكون تحديد الثمن النهائي مهمّا جدّا وذلك من أجل قيام جميع أركان الاتفاق صحيحا كما أن لذلك تأثير من حيث ضبط مقدار التسبقة التي سوف يتسلّمها أو يطلبها صاحب الحرفة من حريفه إذ يجب التفرقة بين معيّن التسبقة وكامل ثمن الشيء المطلوب.
*في بعض الأحيان يقوم أحد الحرفاء بتسليم كامل الثمن المتفق عليه إلا أنه يفاجأ بأن صاحب الحرفة يدّعي بأن المبلغ المتحصّل عليه ما هو إلا تسبقة للانجاز وبالتالي يجب الحذر من هذه النقطة وضبط الثمن النهائي منذ البداية كما ولا يجب تسليم كامل المبلغ إلا مقابل وصل أو فاتورة في الغرض تثبت ذلك ويكونان واضحي المعالم.
وعلى كلّ فإن محاكم الأصل تعتبر تسليم كامل الثمن يدخل أيضا ضمن تسليم المال على وجه التسبقة ويمكن أن يؤدّي بدوره إلى قيام الجريمة.
ج- الشرط الثالث: تسليم الحريف لتسبقة مالية:
إن مقدار التسبقة المالية عادة ما يكون بسيطا لكنه يكون عادة كاف لكي ينطلق صاحب الحرفة في عمله.
المهم في هذه النقطة أنه ومن الطبيعي أن يقوم صاحب الحرفة بتحديد مقدار التسبقة أو العربون لا الحريف ذلك انه هو الذي يعلم ثمن السلع التي سوف يقتنيها لفائدة الحريف وكذلك المدة التي سوف تكفيه لتغطية بعض من كلفة العمل وبالتالي فإن المعيار الأوّل للتفطّن إلى جديّة مطلب التسبقة من عدمه هو المقترح الذي يتقدّم به صاحب الحرفة إن كان جديّا في طلب التسبقة أم لا. فإذا كان الأمر أن قبل بأي مبلغ بسيط يقدّمه الحريف فإن ذلك يكون مؤشّرا غير مطمئن.
—/// الــــــــــــــــــــــشروط السلبية:
أ– الامـــــــــــــــــــتناع الغير مبرّر عن واجب الإنجاز:
ويظهر ذلك عندما يتوجّه الحريف عديد المرات لمحلّ صاحب الصنعة ولا يجد أي بوادر للانطلاق فيما كلّف به. ولكن يطرح الإشكال فيما إذا كان صاحب الصنعة قد انطلق في الانجاز فعلا لكنه استغرق وقتا كثيرا ولم يتقدّم خطوة أخرى في الانجاز فهل يعتبر ذلك حالة من حالات التجريم أم لا؟
هنا المسألة تكون نسبية وخاضعة للاجتهاد:
• إذا كان مقدار التسبقة كافي لانجاز أشواط من العمل:
يقع هنا تتبع المؤشرات الواقعيّة للنظر في مدى جديّة الالتزام:
عدم الاتصال بالحريف مطلقا
طلب قسط آخر من المبلغ أو طلب خلاص باقي المبلغ
التسويف وبعث الأمل في الحريف على الانجاز في أقرب وقت دون تحديد مع بقاء الحال على ما هو عليه.
إعلام الحريف بضرورة منحه مهلة زمنية محدّدة لإتمام المرحلة المقبلة من العمل والتخلّف عن ذلك أو الالتزام بما وعد.
فإذا كانت النتيجة سلبية فإن كل ما ذكر هي مؤشّرات تدلّ على المماطلة واتجاه نيّة صاحب الحرفة لعدم الانجاز.
• إذا قدّم صاحب الحرفة مبرّرات واهية:
وتكون المبررات من قبيل:
كنت مريضا طيلة المدّة السابقة
كنت أزور أحد أقربائي الذي كان مريضا في مكان بعيد
مررت بضائقة مالية والآن الحمد لله تخلّصت منها
إني أتعرّض لضغوطات كثيرة نتيجة كثرة العمل مع عدم وجود صانع يعينني
أتعرّض دوما لوهن وإرهاق بدني
أتعامل مع الطلبات بالأولوية فمن قدّم طلبه قبلا يقع الانجاز له بشكل مسبق عن غيره ثم الذي يليه
وعلى الأغلب تكون هذه المبررات مرفوقة بالقسم بالله.
وهذه كلّها مبررات واهية لأنه ونظرا للوقت الممنوح فإن ذلك لا يثنيه عن الانجاز.
ملاحظــــــــــــــة: 1- يمكن ألا يؤاخذ صاحب الحرفة على التقصير وذلك في صورة حصول أمر طارئ جدّي وحقيقي منعه من مواصلة العمل (مثل عدم توفّر المادة الخام في السوق) أو حصول قوّة قاهرة (مثل العواصف والأمطار والكوارث الطبيعية والحرائق إلخ..).
2-لا يمكن مؤاخذة صاحب الحرفة أيضا إذا كان التأخّر في الانجاز سببه مماطلة الحريف في تسليم قسط من المال أو قياسات معيّنة أو تعهّده بالإتيان بقطعة من القطع ولم يفعل.
• المماطلة المقصودة:
أي في صورة عدم وجود أي مبرر مع التفطن إلى عدم الرغبة في الانجاز إما صراحة أو دلالة من طرف الحريف.
يكون التفطن إلى عدم الرغبة في الإنجاز صراحة إذا عبّر صاحب الصنعة عن نيته في ذلك صراحة مبديا امتناعه عن المواصلة في الاتفاق. ويكون دلالة إذا استغرق من الوقت الكثير دون أن ينطلق في عمل ما طلب منه أو أنه قام بجزء يسير وامتنع عن المواصلة وهو ما يعبّر عنه بالمماطلة.
ويطرح الإشكال في هذا السياق حول مدى إمكانية محاسبة صاحب الحرفة طبق هذه الجريمة إذا ما قام بإنجاز المتفق عليه ولكن خلافا للمواصفات التي يريدها الحريف.
تعتبر هذه المسألة تقديريّة وتتمثّل في التثبت من مدى توفّر شرط المواصفات في الاتفاق من عدمه، بمعنى أنه يقع التثبت في مدى وجود اتفاق مسبق على مواصفات معيّنة بالنسبة للشيء المطلوب إنجازه (مثال ذلك: في صورة الاتفاق مع نجّار حول إنجاز غرفة نوم فإنه يعتبر من ضمن الشروط التي وقع الاتفاق عليها بين الطرفين عند تحديد نوعيّة الخشب وشكل الأثاث وقياس قطعه لذا يكون الاخلال بأحد هذه المواصفات إخلالا بالاتفاق).
ملاحظـــــــــــــــة: في صورة وجود خلل أو خطإ في الإنجاز بالمواصفات المطلوبة فإن عبء إصلاح الخطأ يكون محمولا على عاتق صاحب الحرفة، فإذا لم يقم بالإصلاح اعتبر ذلك من باب المماطلة أيضا.
ب- الامـــــــــــــــــــــتناع الغير مبرّر عن إرجاع التسبقة:
ويكون ذلك عندما لا يقوم الضد بعمله البتة فلا هو التزم بالمطلوب ولا هو أرجع مقدار التسبقة للحريف وبالتالي يبقى صاحب الحرفة عرضة للتتبع الجزائي والمؤاخذة على معنى الفصل المذكور.
2- الــــــــــــــتتبع الـــــــــــــــــمدني:
إن التتبع المدني يجد أساسه صلب الفصل 275 من مجلة الإلتزامات والعقود والذي ينص على أنه: ” إذا التزم أحد بعمل شيء طولب بالخسارة عند عدم العمل، فإن كان الالتزام لا يتوقف إتمامه على ذات الملتزم جاز للملتزم له أن يجريه بواسطة غيره من مال المدين بغير أن يتجاوز القدر اللازم للتنفيذ فإن تجاوز مائة دينار لزم الدائن استئذان القاضي”.
وفي هذه الحالة فإن الشخص الذي يمتنع عن القيام أو عن إتمام ما وقع الاتفاق على إنجازه يجد نفسه عرضة للمطالبة بالتعويض عن الخسارة الناجمة عن ذلك.
وتعرّف الخسارة حسب نص الفصل 278 من م.إ.ع. بأنها ذلك النقص الذي يشوب مال الدائن أو الذي يشوب الربح الذي يجب أن يتحصّل عليه من وراء الاتفاق واللذان يقومان مقام المضرّة الحاصلة جرّاء الامتناع عن العمل المطلوب أو إنجازه معيبا.
ويحدد ذلك بحسب معايير منها الخطأ المقترف من طرف صاحب الحرفة ومعاينة الأسلوب المعتمد في التغرير بالحريف أو حتى التحيّل في الانجاز.
وعلى هذا الأساس يمكن للحريف أن يلجأ للقضاء المدني من أجل المطالبة باسترجاع مبلغ التسبقة الذي وفّره للضد والذي بقي بحوزته دون أي مقابل يذكر.
ملاحظـــــــــــــــة: تتعلّق بصورة الإنجاز المعيب للشيء المطلوب، هذه الحالة تتيح للحريف إمكانية طلب المساعدة في إصلاح ما شاب الشيء المنجز من عيوب لسبب من الأسباب مع بقاء ذمّة صاحب الصنعة الأول عامرة بالخسارة التي يمكن أن تحدث في شكل تجاوز للمبلغ المالي الجملي المتفق عليه.
إذ يمكن طلب المساعدة من صاحب حرفة آخر لاتمام الالتزام وهو أمر يكون مشروطا كالتالي:
• أن يقتصر الخلاف على تفاصيل المواصفات التي شوبها عيب بسبب خطإ أو إهمال من طرف صاحب الحرفة الملتزم.
• ألا يتجاوز مقدار الإصلاح مبلغ المائة دينار(100د) وفي صورة تجاوزه يقع التقدّم بإذن على عريضة في الغرض لرئيس المحكمة المختصة بالنظر من أجل الحصول على الترخيص المناسب لاعتماد هذا الحلّ.
لكن السؤال المطروح هنا: هل يبقى صاحب الحرفة الأول مطلوبا للحريف جرّاء ما سوف يقع بذله من أجر إضافي لصاحب الحرفة الثاني؟
محكمة التعقيب في هذا الخصوص اعتبرت وأن اللجوء إلى هذا الحل يغني عن المطالبة بالغرامة حيث أقرّت في قرارها التعقيبي عـ9939ــدد المؤرخ في 18/07/1974 من أنه: ” إذا وجد المستأجر عيبا بالمصنوع كان له تطبيقا للفصلين 275 و 675 مدني أن يستأذن الحاكم في تدارك العيب وأن يكلّف الغير بهذا التدارك ان امتنع الأجير من القيام به وليس له أن يقوم بقضية للمطالبة بالغرم”. (ن.م.ت. 1974/الجزء1/ صفحة 204).
نرجو لكم دائما الاستفادة من مقالاتنا
مع تحيّات الأستاذ أيمن الزراع
المحامي بالمهديّة