الشهادة الطبية في القانون الجزائي
ايمان العرفاوي باحثة و طالبة سنة ثانية دكتورا بكلية الحقوق و العلوم السياسية بتونس
يشمل العمل الطبي كلّ الممارسات الفنية والتطبيقية المستندة لقواعد علمية بما في ذلك التقارير والملفات والوصفات والشهادات، و بموجب هذه الأخيرة يتحصل كل شخص على المعلومات المتعلقة بصحته يصف فيها الطبيب حالته، كما قد تكون سندا قانونيا صحيحا للمطالبة بالتعويضات المستحقة أمام المحاكم خاصة فيما يتعلق بحوادث الشغل و الأمراض المهنية و حوادث المرور و وصف الجريمة و غيرها، وهي بذلك تكسب حقوقا و تفقد أخرى كما أنها تمس بالحريات العامة.
و الشهادة من فعل شهد، أي أكد أن ذلك الشيء حقيقة فشهد أن ذلك الشيء موجودا أي رآه و عاينه، أما الطب فطبا له أي داواه و عالجه و يقال طبّ له أو لدائه. فالطب هو العلم الذي يجمع خبرات الإنسانية في الإهتمام بالإنسان أو الحيوان و ما يعتريه من إعتلال و أمراض و إصابات تنال من بدنه و يحاول إيجاد العلاج بشقّيه الدوائي و الجراحي و إجرائه على المريض، فهو علم تطبيقي يستفيد من التجارب البشرية على مدى التاريخ، و في العصر الحديث يقوم الطب على الدراسات العلمية الموثقة بالتجارب المخبرية و السّريرية.
و المشرع التّونسي يتعرّض في كلّ مرّة إلى الشهادة الطبيّة دون أن يعرّفها كما أنّه لم يخصها بنظام قانوني محدّد حيث لا نجد أيّ نصّ خاص يتناول هذه الوثيقة عدى بعض النّصوص والمحدودة منها الأمر عدد 93-1155 لسنة 1993 المؤرخ من 17 ماي 1993 والمنظّم لمجلة واجبات الطبيب، وهو أمر لم نألفه لدى المشرع إذ عادة ما يتولى تعريف جملة المؤسسات القانونية لديه.
على عكس المشرع الفرنسي الذي عرّفها بالفصل 441 من المجلة الجنائية بأنها” كتب أو أي تعبير آخر يكون الغرض منها إثبات حقّ.”
واعتبارا لهذا الفراغ التشريعي في القانون التونسي مقابل الأهميّة التي تكتسيها الشهادة الطبية كان لا بد من الإستئناس بالتعاريف الفقهيّة.
و قد عرّفها الفقهاء بأنّها “سند مكتوب مخصّص لمعاينة أو تفسير وقائع ذات طابع طبيّ”.
كما عرّفها الأستاذ ” أوبي” بأنها:” سند مكتوب يشهد بمقتضاه طبيب أنّه أجرى معاينة ذات طابع طبي أو عملا طبيّا.”
وبالنسبة للأستاذة ” لارغويي” فالشهادة الطبية هي “إشهاد صادر عن طبيب بكلّ المعاينات الإيجابية و السلبيّة التي تخصّ الشخص المفحوص والتي من شأنها التأثير بصفة مباشرة أو غير مباشرة على المصالح العامّة أو الخاصة لهذا الشخص.”
والملاحظ من خلال هذه التعاريف هو أن التعريف الأول قد أغفل نسبة هذه الشهادة إلى الطبيب باعتباره الشخص المختصّ بإنشائها كما أغفل الحالة التي يضمنها هذا الأخير انجازه لعمل مهني”.
أمّا بالنسبة للتعريف الثاني فقد أغفل الحالة التي يكون فيها مضمون الشهادة تفسيرا أو تأويلا لواقعة ذات طابع طبي وليس مجرّد معاينة لها.
نفس الشيء بالنسبة للتعريف الثالث الذي أغفل الحالة التي يكون فيها مضمون الشهادة تثبيتا لأداء أو إنجاز عمل طبيّ.
ويعرّفها الأستاذ مراد كننّي بأنها: “وثيقة رسمية صادرة عن سلطة عمومية أو خاصّة هدفها معاينة حالة الشخص… كما يمكن أن تكون وسيلة إثبات لبعض الجرائم.”
وبما أن الشهادة الطبيّة هي عمل طبيّ بامتياز كان لا بد من الإستعانة بتعريف الأطباء الذين يعتبرون الشهادة الطبيّة “عمل شبه رسمي مكتوب يهدف إلى ملاحظة وقائع ذات طابع علمي.”
وبناءا على ما سلف ذكره يتضح جليّا أن “الشهادة الطبية هي تلك المعاينة العلمية والموضوعية لحالة صحية لمريض محدّد بذاته، كذلك يمكن أن تكون معاينة علمية وموضوعية لواقعة صحية محددة بذاتها فتكون متضمنة للموقف العلمي والطبي للطبيب المباشر لها.”
و قد ظهرت الشهادة الطبية تاريخيا بالإقتران مع ظهور الطب بصفة عامة و الطب الشرعي بصفة خاصة، فقد تضمّن قانون حمورابي الذي يرجع إلى حوالي 2200 عام قبل الميلاد تشريعات عن مزاولة مهنة الطب و الجراحة للمرة الأولى في التاريخ.
و تتعدد أصناف الشهادات الطبية، فنجد شهادات الوفاة و شهادات الإعتداء بالعنف بمختلف أنواعه و شهادات في الحمل… و التي تحرر إما بتكليف من جهة معينة أو بطلب من المريض أو المتضرر إعتبارا لقيمتها في الإثبات.
و لصحتها لا بد من مراعاة جملة من الشروط الموضوعية و الشكلية المنصوص عليها بقانون مزاولة مهنة الطب الذي يفرض أن يكون الطبيب متحصل على شهادة الدكتوراه في الطب و مسجل بجدول عمادة الأطباء.
و حسب مجلة واجبات الطبيب يجب أن تتضمن الشهادة الطبية هوية الطبيب و إمضاؤه بخط اليد و تاريخ الفحص المعتمد في البيانات المدرجة بالوثائق و تاريخ تسليمها و الهوية الصحيحة للمريض.
من الناحية الشكلية، تكون الشهادة الطبية مكتوبة و محددة بشكل واضح و بأسلوب بسيط، كما يجب أن تكون دقيقة لا تنطوي على معطيات طبية تحتمل التأويل أو يصعب على الطبيب الذي يحررها توضيحها و متوازنة بين الشكل و المضمون بحيث يعكس الشكل عناية الطبيب بالمضمون.
و نظرا لصدورها عن طبيب، قد تختلط الشهادة الطبية بغيرها من الوثائق الأخرى المشابهة لها كالرسالة الطبية التي تختلف عنها من حيث الهدف و الشخص الموجهة إليه، فالأولى تسلم الى الشخص المعني بها من أجل إستخدامها في الإثبات، أما الثانية فتوجّه إلى الطبيب المختص لأجل توضيح المعاينات التي أجراها مرسلها لفائدة المريض أو إلى أسرته لتقديم النصائح اللازمة للعناية به.
كما تختلف الشهادة الطبية عن الرأي الطبي من حيث المضمون والشكل، فالأولى تكون ضرورة موضوعية وكتابية على خلاف الرأي الطبي الذي يكون شخصي وقد يكون شفويا فلا يشترط فيه أن يكون مكتوبا.
أما الوصفة الطبية فقد تلتقي مع الشهادة الطبية على اعتبار أن كلاهما يعتبر كتابة صادرة عن طبيب بمناسبة مزاولته لمهنته فإنهما مع ذلك تختلفان في أن الأولى لا تتضمن وصفا أو تأويلا لواقعة طبية أو تأكيدا لإنجاز مهني من لدن محرّرها وإنّما تتضمن أمرا واضحا لمصلحة المريض لتناول دواء معين.
نفس الشيء بالنسبة للمنشورات التي يحرّرها الطبيب فالهدف منها تقديم الطبيب لعمله وعلمه ونشره لدى العموم والذي يختلف تماما عن الأهداف المجعولة من أجلها الشهادة الطبية.
وبالنسبة للتقرير الطبي فيعتبر شرحا وتفسيرا مكتوبا بخبرة طبية يقوم بها الطبيب الخبير بناءا على تكليف من القضاء فهو وثيقة مكتوبة يشهد بموجبها الطبيب بما عاينه على الضحية من آثار اعتداء وعنف وبالتالي فإن التقرير الطبي يمكن أن يأخذ صبغة الشهادة الطبية على اعتبار أنّ هذه الأخيرة تنطبق على كل مكتوب يشهد فيه الطبيب ومن يسمح له القانون بتعويضه لمعاينة حالة صحيّة وما يترتب عنها من علاج أو مضاعفات لهدف اثبات حقّ مشروع”.
و قد يطلع على الشهادة الطبية أطراف بعيدين عن المجال الطبي كالمحامين والقضاة وذلك خاصة عند اعتماد هذه الوثيقة في النزاعات المدنية والجزائية لذلك يجب على الطبيب أن يبتعد كلّ البعد عن المصطلحات المعقدة وغير المفهومة.
إلا أن إعتمادها في النزاع الجزائي يعتبر أكثر خطورة على الأفراد لأنها يمكن أن تؤدي في بعض الأحيان إلى سلب الفرد حريته تطبيقا للقانون الجزائي الذي يعتبره الفقه الفرنسي جملة المبادئ المشتركة التي تنطبق على كل الجرائم و العقوبات و التي تعكس رؤية المجتمع للظاهرة الإجرامية في مرحلة زمنية محددة. فهو ” قانون من قوانين الدولة، يحدّد التصرّفات المجرّمة وطرق ردّ فعل المجتمع و الأشخاص المعنيين بذلك.” واعتبارا لصرامة هذا القانون ونظرا للعقوبات المسلطة المنصوص عليها بالفصل 5 من م.ج ونظرا لحرية الإثبات فيه فإنه لابدّ من إحاطة الشهادة الطبية بقوانين خاصة تنظمها وتحدّ من التجاوزات التي قد تضرّ بالغير المتهم في الجريمة فيمكن أن يقدّم المتضرّر شهادة طبية تتضمن راحة طويلة نظرا لعجز بدني ناتج عن الإعتداء بالعنف من طرف المتهم إلاّ أنّه يتبين فيما بعد أنّ المعطيات المذكورة بهذه الشهادة هي مجردّ معطيات مغلوطة يمكن أن تؤدّي إلى سجن المتهم.
وبالرجوع إلى أحكام الإجراءات الجزائية تحديدا الفصل 150 نلاحظ أنّها إجراءات يحكمها مبدأ أساسي يتمثل في حريّة الاثبات، وبناءا على ذلك فإن الشهادات الطبيّة تعتبر وسيلة إثبات في القانون الجزائي على عكس ما يراه البعض والقول بذلك لا يعني الأخذ بالشهادة الطبية كوسيلة للإثبات الجزائي بصفة مطلقة حيث يبقى للقاضي السلطة التقديرية في مدى الأخذ بها من عدمه.
وحتى لا يكوّن عقيدته على أساس شهادة طبيّة غير صحيحة أو غير كافية لوحدها للأخذ بها وتحديد الفعل المجرّم والمتهم فإنه يستبعدها ولا تكون وسيلة إثبات نظرا لأنها شهادة مجاملة أي أنّها شهادة طبية تتضمن وقائع غير موجودة أو أنّها منقوصة أي غير مدعومة بالحجج الكافية للأخذ بها كشهادة الشهود وغيرها من الأدلة وتقوم على أساس ذلك مسؤولية الطبيب لتحريره شهادات مجاملة، أمّا إذا اقتنع القاضي بما جاء بالشهادة الطبية فنتيجة لذلك تقوم مسؤولية المتهم الذي استعملت ضدّه الشهادة الطبيّة.
فبالرغم من أنه لم يخصها بنظام قانوني، فالمشرع لم يغفل عن مساءلة الطبيب نظرا للتجاوزات التي يقوم بها كتزوير الشهادات الطبية أو تحرير شهادات مجاملة لتقوم بذلك مسؤوليته الجزائية و المدنية و التأديبية.
أمّا عن المسؤولية الجزائية فسعيا من المشرع لحفظ صحّة وسلامة الأشخاص وإحاطة الشهادة الطبية بالعناية اللازمة حتى تتمّ حماية المتضرر منها، فكلّ طبيب صدر منه إقرار كاذب أو فيه تستر على وجود مرض أو عجز أو حالة حمل أو قدّم بيانات كاذبة عن مصدر المرض أو العجز أو سبب الوفاة يعاقب بالسجن.
كذلك نفس الشيء بالنسبة للطبيب الذي يضع عن علم اقرارا أو شهادة تتضمّن وقائع غير صحيحة .
وتقتضي المسؤولية المدنية التعويض المادي عن الضرر الناتج عن تحرير الشهادة الطبية عن غير تبصر أو عن سوء نيّة.
أخيرا المسؤولية التأديبية حيث يعاقب الطبيب عن تحرير الشهادات الطبية المجاملة من طرف المجالس التأديبيّة لهيئة الأطباء.
وتتجاوز المسؤولية الطبيب لتشمل أي شخص آخر يقوم بتزوير الشهادة الطبيّة كسرقة شهادات طبية بيضاء وتعميرها ثم بيعها والانتفاع بأجرها للمصلحة الشخصيّة.
بناءا على ما تقدّم نجد الشهادة الطبية حاضرة في القضاء الجزائي التونسي كوسيلة إثبات يمكن أن تؤدي إلى قيام المسؤولية في جانب الطبيب أو أي شخص، وهي تكتسي أهميّة جديرة بالدّراسة على الصعيدين النظري والتطبيقي.
و يظهر ذلك نظريا من خلال دراسة المرجعيات التي تناولت الشهادة الطبيّة في القانون الجزائي والتي تمكّن من تحدد مجال الأخذ بالشهادات الطبية في دائرة الإثبات الجزائي نحو الحدّ من طرق الإلتجاء إليها بصفة تلقائية و حفّها بالصرامة اللازمة وإدراجها ضمن قانون مستقل ذلك أن جميع الآراء تعكس بصفة فعلية وجهات نظر متقاربة في أن مجال الالتجاء إلى الشهادة الطبيّة عشوائي يفتقد للتنظيم التشريعي الذي ينعكس بطبيعة الحال على الواقع وهو ما يستتبع سلسلة من الآثار ذات الأهمية التطبيقية فدراسة الشهادة الطبية في القانون الجزائي هو بمثابة دراسة صورة من صور الإثبات نظرا لإمكانية الاحتجاج بها في عديد المسائل التي يصعب حصرها ومدى حجيتها كوسيلة إثبات باعتبارها دليلا فنيا طبيّا يحمل حقائق علمية.
وبناءا على ذلك نلاحظ أن الشهادة الطبية في القانون الجزائي تبقى غامضة ومتراوحة بين اعتبارها وسيلة اثبات أو مجرّد وثيقة ممضاة من الطبيب المباشر فقط لتحديد مدّة راحة الضحيّة.
وهو ما يدعونا إلى طرح الإشكالية التّالية:
ماهي فاعلية الشهادة الطبية في القانون الجزائي؟
دراسة الشهادة الطبية تستوجب الوقوف على اعتبارها وسيلة اثبات (1) ثم الى كيفية تعاطي القضاء الجزائي مع الشهادة الطبية (2)
- الشهادة الطبية وسيلة اثبات في القانون الجزائي:
تعتبر الشهادة الطبية من أهم أدلة الإثبات التي يعتمد عليها القضاء في المادة الجزائية باعتبار أن الجرائم هي وقائع مادية لا يتصور فيها تحضير وسائل الإثبات مسبقا كما هو الحال بالنسبة للتصرفات القانونية.
و لئن لم يحدد المشرع التونسي الطبيعة القانونية للشهادة الطبية إلا أن فقه القضاء عموما تطرق عديد المرات إلى كون الشهادة الطبية وسيلة إثبات للضرر.
الضرر هو الأذى الذي يصيب الشخص في حق من حقوقه أو في مصلحة مشروعة له سواء كان ذلك الحق أو تلك المصلحة متعلقة بسلامة جسمه أو عاطفته، و لإثبات ذلك يعتمد القاضي الجزائي على جميع و سائل الإثبات .
و لأنه يصعب على القاضي الإلمام بجميع التفاصيل المتعلقة بالمجال الطبي لأنها تخرج عن مجال اختصاصه رأى المشرع أن يرخص له باللجوء إلى أهل الخبرة و الاختصاص و ذلك للإستعانة برأيهم في فهم تلك الأمور و تكوين فكرة صحيحة عن وقائع النزاع.
و يلتجئ القاضي الجزائي إلى الأطباء للإستعانة بخبرتهم النابعة من تخصصهم في الطب.
وتكون الشهادة الطبية المقدمة سواء بصفة تلقائية من طرف المتضرر من الجريمة لتأييد ما يدعيه و كدليل لوجود الضرر أو كذلك يكون بتكليف الطبيب من المحكمة بتقديم شهادة مفصلة عن طريق الاختبار الطبي.
و يتنوع الضرر الحاصل بحسب الجرائم المرتكبة كجرائم العنف و الجرائم الجنسية و جرائم المخدرات…
و البحث في مجال إثبات الجريمة أساسا الضرر الناجم عنها يدعونا إلى التعرض إلى كيفية إثباتها بواسطة الشهادة الطبية خارج إطار الإجراءات المعتمدة في القانون الجزائي ثم إلى إثبات الضرر الحاصل للشخص في إطار الإجراءات.
- اثبات الضرر الناجم عن الجريمة خارج اطار الإجراءات المتبعة من طرف الضابطة العدلية و جهات التحقيق:
قد يحصل للشخص ضرر خارج إطار الإجراءات التي تتخذها جهات التحقيق و أعوان الضابطة العدلية كأن يتم قتل شخص أو كذلك في جرائم العنف أو الضرب و الجرح و غيرها من الجرائم التي تحصل و لا يكون للإجراءات المتخذة من طرف الجهات المذكورة أي دخل في حصول الضرر فهي أضرار لاحقة بالشّخص دون تدخّل منها عن طريق الاحتفاظ مثلا أو الإيقاف التحفظي.
و قد يصعب إثبات ذلك نظرا لغياب وسائل الإثبات، لكن تبقى الشهادة الطبية وسيلة يمكن اعتبارها في درجة أولى مثبتة لوجود الضرر الحاصل نتيجة للاعتداء بالعنف المؤدي أحيانا إلى القتل أو الاعتداء الجنسي و غيرها من الأضرار التي سنتعرض إليها تباعا و بموجب ما سبق، فللشهادة الطبية دور هام في إثبات الاعتداء على الأشخاص كالاعتداء المادي و الجرائم الأخلاقية.
و تشهد الجريمة اليوم تطورا على مستوى طرق ووسائل إرتكابها و بالنسبة للوفاة الناتجة عن فعل إجرامي فهي تثير العديد من التساؤلات التي يكون الطبيب الشرعي مطالبا بالرد عليها إثر معاينته للجثة في مجمل ردوده و التي تؤدي إلى تكوين تقرير كامل مستند بالأساس على أساليب علمية خاصة كالطب الشرعي الباثولوجي و هو المعني في المقام الأول بمعرفة سبب الوفاة، ففي جرائم القتل عموما يتم الاستعانة بالطب الشرعي لأن الخبرة الطبية الشرعية تساعد على تشخيص الجريمة استنادا إلى معطيات موضوعية يستنتجها الطبيب الشرعي، فهو تلك المساحة من الممارسات الطبية المعنية بتتبع الحقائق الطبية لغاية تقديمها كأدلة أمام المحاكم الجزائية لتأكيد حق قانوني أو دفع اتهام.
و بصورة أخرى يكون الطبيب بحكم خبرته مساعدا للقضاء في الكشف عن الجريمة و ذلك من خلال تحريره لتقرير يتضمن وصفا دقيقا لكيفية الوفاة يتم إلحاقها بملف القضية. و بالتالي إذا توصّل الطبيب إلى حقيقة أن الوفاة كانت نتيجة للاعتداء بما معناه إذا توفرت الرابطة السببية بين الوفاة و الفعل الضار كأن تكون الوفاة نتيجة للاعتداء على المجني عليه بواسطة آلة حادة فإن ذلك يكون دليلا قاطعا يتمّ اعتماده لدى المحاكم الجزائية. و هذا ما يؤكد أن مهمة القاضي أصبحت تتطلب في أغلب الحالات الإطلاع على فنون و علوم خارجة عن نطاق تكوينه القانوني.
فالاستعانة بالخبرة الطبية في مجال إثبات جرائم القتل يعتبر أساسيا لإجلاء الغموض الذي يكسو الجريمة التي تتوضح معالمها بالرجوع إلى الخبرة الطبية و العلمية. و يتضح ذلك من خلال ما جاء بحيثيات القرار الجزائي عدد 45072 الصادر عن محكمة التعقيب بتاريخ 6 نوفمبر 2009 : ” و حيث أنه اتضح من الإطلاع على مستندات الحكم المنتقد أنه لما قضى بإدانة المعقب فلقد اعتمدت مستندات صحيحة … و عللت المحكمة حكمها بخصوص العلاقة السببية بين الضربة التي وجهها المعقب للهالك على رأسه بالقضيب الحديدي المحجوز و الموت استنادا على تقرير التشريح الطبي بما يتجه معه رد المطاعن المثارة لعدم ارتكازها على السند الصحيح “.
أما فيما يخص جرائم الجرح، فالجروح و الإصابات هي اعتداءات تدخل في إطار الإيذاء بوجه عام الذي عرفه الفقهاء بكونه:” كل نشاط يصدر من الجاني يسبب ألاما للمجني عليه.” لكن الملاحظ إن هذا التعريف قاصر على الوصول إلى المعنى الحقيقي للجرح ذلك أن فكرة الإيذاء لم تعد تقتصر على إحداث الألم بالجسم بل اتسعت لتشمل كل ما يعمل على الإضرار بسلامة الجسم و كل فعل ينقص من التكامل الجسدي يعتبر اعتداءا على سلامته.
والجروح من الناحية الطبية الشرعية تختلف حسب الوسائل المستعملة لإحداثها وتتمثل في السحجات وهي التي تحدث نتيجة لاحتكاك الجلد بسطح خشن بما يؤدي إلى تلف الطبقة الخارجية كذلك الكدمات و تتمثل في تمزق الأوعية الدموية والأنسجة تحت الجلد و تكون ناتجة عن الاصطدام بأداة صلبة.
و الجروح المفتوحة بأداة قاطعة تسببها السكاكين، قطع الزجاج، كذلك الجروح الطعنيّة والتي تكون بواسطة آلة ذات رأس مذبب و قاطع في نفس الوقت.
إذن تختلف الجروح بحسب الأداة المتسببة فيها و بموجب ذلك يختلف العقاب حيث يعتمد القاضي على تشخيص الطبيب لهذه الجروح و التي يحدد فيها نسبة العجز الذي بدوره يؤثر على التكييف القانوني.
ولم يحدد المشرع التونسي مدة العجز بعدد الأيام الممنوحة كاستراحة المتضرر من العنف وإنما حددها صلب الفصل 219 من م. ج بموجب النسبة التي يقرها الطبيب.
و بالتالي، يستعين القضاء بالأطباء لإثبات نسبة السقوط و تحديد نسبة العجز بالرجوع إلى مقدار النقص الوظيفي الذي تركته العاهة.
أما بالنسبة للجرائم الأخلاقية فتعتبر من أهم مجالات تدخل الطب الشرعي كوسيلة إثبات علمية للفعل المادي للجريمة لأن هذه الجرائم تتطلب من القاضي الجزائي اللجوء إلى الخبرة الطبية للبت في موضوع حصول الجريمة من عدمها باعتبار أن الأمر خارج عن نطاق اختصاص القاضي.
كما يبرز دور الشهادة الطبية في اثبات آثار الفعل المجرم و يبرز ذلك أساسا في اثبات جرائم استهلاك المؤثرات العقلية و اثبات الخطأ الطبي.
2 اثبات الضرر الناجم عن الجريمة في إطار الإجراءات المتبعة من طرف الضابطة العدلية و جهات التحقيق:
يعتبر الفحص الطبي إجراءا في غاية الأهمية يتحصل من خلاله المحتفظ به على شهادة طبية تضاف إلى ملفه و ذلك لإثبات الاعتداء الحاصل له أثناء فترة الاحتفاظ إلا أن ذلك يبقى إجراءا قاصرا على إثبات الانتهاكات المعنوية كالسب و الشتم و الإهانة و حتى في صورة العنف المادي فقد يتفنن الأعوان في محو الآثار الناتجة عن الاعتداءات بعدة طرق مثل المراهم و غيرها من العقاقير إيمانا منهم أن المشكل لا يطرح إلا في صورة وجود آثار ظاهرة.
- تعاطي القضاء الجزائي مع الشهادة الطبية :
تخضع الشهادة الطبية المحررة بتكليف من الجهة القضائية أو المدلى بها تلقائيا من طرف المتضرر إلى جملة من الشروط التي يجب أن تكون متوفرة و ذلك على مستوى مضمونها أو على مستوى مصدرها حتى تكون لهذه الشهادة الطبية حجية أمام القاضي الجزائي الذي تبقى له وحده السلطة التقديرية الكاملة في الأخذ بالشهادة الطبية من عدمه و إذا ما تبين أن الشهادة الطبية تشوبها جملة من العناصر المستوجبة لمساءلة الطبيب أو المتضرر المتقدم بها تقوم بذلك المسؤولية لأننا أصبحنا نتحدث عن فوضى سوق الشهادات الطبية التي تظهر من خلال شراءها فأصبحت بذلك تخضع إلى قاعدة العرض و الطلب حيث نجد الأطباء قد وضعوا تسعيرات جزافية حسب المدة المطلوبة ليتراوح ثمن الشهادة الطبية المجاملة بين 5 دنانير و 80 دينار، و هي تجاوزات تعرض الطبيب و مساعديه إلى عقوبة تتراوح بين سنة في حال المحاباة و 5 سنوات في صورة تلقي منفعة مقابل ذلك بموجب الفصل 197 من م. ج.
لكن مقابل ذلك توجد صعوبة في إثبات طبيعة المجاملة، أما إذا تأكد ذلك أي بتوفر أركان جريمة تقوم مسؤولية الطبيب وكذلك الشخص الذي تعمد الحصول على شهادة طبية بواسطة مبذولات أو وعود أو هدايا… حيث يعتبر مشاركا في الجريمة، وهي جريمة لم يتعرض إليها المشرع التونسي حيث أقر العقوبة فقط للطبيب و الحال أن هذا الأخير لا يصنع الشهادة لخاصة نفسه.
إذن بالرغم من العقوبات المنصوص عليها صلب المجلة الجزائية أو مجلة واجبات الطبيب فإن الخروقات في مجال الشهادات الطبية يبقى موجودا.
قائمة المراجع
المراجع باللغة العربية:
- 1- المراجع العامة:
- أحمد الخمليشي، القانون الجزائي الخاص، الطبعة الثانية، مكتبة المعارف، 1985.
- عبد المنعم بن محمد ساسي العبيدي، شرح المبادئ الجزائية و الأخلاقية، دار الكتاب، تونس، 2018.
- فرج القصير، القانون الجنائي العام، مركز النشر الجامعي، 2006.
- سليمان عبد المنعم، علم الاجرام و الجزاء، منشورات الحلبي الحقوقية، 2003.
- مصطفى بن جعفر، القانون الجزائي التونسي، القسم العام، مجمع الأطرش، 2009.
- علي كحلون، دروس في الإجراءات الجزائية، مجمع الاطرش، الطبعة الثانية، تونس 2013.
- علي كحلون، التعليق على مجلة الإجراءات الجزائية، مجمع الأطرش، تونس، 2013.
- علي كحلون، النظرية العامة للإلتزامات، مجمع الأطرش،الطبعة الأولى،2014-2015.
2– المراجع الخاصة:
- أحمد عبد السلام علي، التعليق على جرائم التزييف و التزوير في قانون العقوبات في ضوء الفقه و القضاء، دار الكتب القانونية، مصر، 2007.
- أحمد ذياب و أنور الجراية و سمير معتوق، الشهادة الطبية، منشورات دار جيم للنشر، تونس، 1997.
- الصادق العابد، خواطر قانونية في المادة الطبية، دار الميزان للنشر، تونس، 2007.
- عبد الحكم فودة، و سالم حسين الدميري، الطب الشرعي و جرائم الاعتداء على الاشخاص و الأموال، دار المطبوعات الجامعية، 1997.
- محمد عبد الحكيم كرشيد، مسؤولية الطبيب الجزائية و الأخلاقية، تونس، 2016.
- سليمان مرقس، الفعل الضار، الطبعة الثانية، دار النشر للجامعات المصرية، 1956.
- معوض عبد التواب و سينوت حليم روس، الطب الشرعي و التحقيق الجنائي و الأدلة الجنائية، منشأة المعارف، الاسكندرية، 1999.
- أسامة رمضان، أساسيات علم الطب الشرعي و السموم للهيئات القضائية و المحامين، دار الكتب القانونية، مصر، 2005.
- سامي الجربي، شروط المسؤولية المدنية، التسفير الفني، صفاقس، 2011.
- منير رياض حنا، الطب الشرعي و الوسائل العلمية و البوليسية المستخدمة في الكشف عن الجرائم و تعقب الجناة، دار الفكر الجامعي، مصر،2011.
3 – الأطروحات و المذكرات:
- عادل العشابي، ، الشهادة الطبية في القانون المغربي، رسالة لنيل دبلوم الدراسات المعمّقة في القانون المدني، كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الإجتماعية، الرباط، 2001 – 2002.
- مروى الفقيه، الطب الشرعي و الإثبات في المادة الجزائية، مذكرة لنيل شهادة الماجستير في القانون الخاص، كلية الحقوق و العلوم و السياسية تونس، 2010 – 2011.
- محمد نجيب الحسني، الإختبار في المادة الجزائية، محاضرة ختم التمرين بالمعهد الأعلى للمحاماة، 2013-2014.
4 – الدراسات و المقالات:
- حسن بن حسن، العنف المجرّد، لقاء جهوي بقابس خاص بجرائم العنف، 1994.
- المنجي الاخضر، دراسات قانونية في مختلف فروع القانون الجزائي العام مدعمة بفقه قضاء محكمة التعقيب، معهد الدراسات العليا للنشر، 2010، ص 228-229.
- فتحي الميموني، القواعد القانونية للإختبار الطبي، دورة المعهد الأعلى للقضاء و الجمعية التونسية لعلوم الطب الشرعي و الإجتماعي، 1994.
- محمود داوود يعقوب، الشهادة الطبية تثبت القوة القاهرة، تعليق على قرار تعقيبي جزائي، الأخبار القانونية، جوان 2006، ص 20-22.
- محمود داوود يعقوب، من أجل نظام تتبّع جزائي خاص بالخطأ الطبي، مجلة الاخبار القانونية، جوان 2017، ص 27.
- محمود داوود يعقوب،الأثر الذي تحدثه القوة القاهرة على إجراءات الطعن بالإعتراض، دار القانون للمحاماة و الإستشارات و الدراسات القانونية، 2013، ص 4.
- المنصف حمدون، دورة الطب الشرعي في تحديد الاخطاء الطبية، دورة دراسية بالمعهد الاعلى للقضاء متعلقة بالمسؤولية المدنية و الجزائية و الاخطاء الطبية، 2003.
- المنصف حمدون، دورة الطب الشرعي و علاقته بالقضاء، 1994.
المراجع باللغة الفرنسية
1 – LES OUVRAGES
Les ouvrages Généraux :
- Bernard Bouloc, Droit Pénal Général, Dalloz, 2017.
- Bernard Bouloc, Gaston Stefani, Georges Levasseur, Procédure Pénale, Dalloz, 26 ème édition, 2017.
- Garraud, traité théorique et pratique d’instruction criminelle et procédures pénales, 1907.
Les ouvrages spéciaux :
- Jean Marie Auby, Le droit de la santé, P.U.F , 1981.
- Louis Mélennec et Geard Mémeteau, Certificat Médical, La prescription médicamenteuse, Maloines.S.A.Editeur, Paris, 1982.
- Sylvie welsch, Responsabilité du médecin, Risques et Réalités judiciaires, Edition Litec, 2000.
- Sophie Hacquet_ Berg-Buno Py, La responsabilité du médecin, 1 ère édition,Heures de France, 2006.
- Thèses et Mémoires :
- Aune Marie Larguier, Certificats médicaux et secret professionnel, thèses Lyon, 1961.
- Azzouz hadji jihan, Responsabilité pénale du médecin, mémoire pour l’obtention de diplôme d’étude approfondie en sciences criminelles, Faculté de droit et des sciences politiques de Tunis, 2002 – 2003.
- Articles de recherche :
- Mehdi Amor, le droit d’information médicale et le respect de la volonté de l’usager de santé, infos juridiques, La Revue de droit, Mai 2017 , p 29.
- Mourad Knani, Lecture juridique du certificat médical, R.J.L 2010, p 9.
- Ribeiro, La détermination de l’age chez l’homme et son utilité au point de vue médico-légal, Bulletin et mémoires de la société d’antropologie, Paris, juillet 1926.