Site icon الميزان

الجماعات المحلية في تونس : بين رواسب الماضي وتطلعات المستقبل مهدي بن خليفة


مجاز في القانون ودارس في ماجستير بحث في القانون الخاص
كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس – جامعة تونس المنار
mehdibenkhelifa@yahoo.com

لا يمكن للسلطة المركزية الإشراف على كل ما يهم المجموعة الوطنية … من هنا انطلقت فكرة إنشاء إدارات جهوية،محلية تساعد السلطة المركزية على تسيير دواليب الدولة و ذلك من خلال الاقتراب أكثر فأكثر من المواطن والاصغاء الى مشاكله و تطلعاته من جهة و توفير الخدمات المناسبة و الحيوية من جهة أخري .
وقد اتفقت كل الدول تقريبا ، بالرغم من بعض الاختلافات ، على أهمية هذه الإدارات الجهوية و المحلية لتحقيق النمو و تقسيم العمل بين الوحدات المختلفة في إطار الدولة الواحدة.
و تعتبر في هذا السياق الجماعات المحلية التي تتكون أساسا من بلديات وجهاتوأقاليم يغطّي كل صنف منها كامل تراب الجمهورية،الاطار النموذجي في إرساء اللامركزية و ممارسة الديمقراطية .
تاريخيا ،عرفت تونس نظاما مركزيا مشددا فلا وجود لجماعات محلية مستقلة مختصة في إدارة الشأن المحلي إلى حين تأسيس بلدية الحاضرة سنة 1858 ثم تأسست خمس بلديات في عهد الحماية.
و مباشرة بعد الاستقلال و بناء الجمهورية الأولي‘اهتم المشرع التأسيسي منذ صدور دستور غرة جوان 1959 بالجماعات المحلية بالرغم من أنه كان مقتضبا و لم يخصص إلا فصلا وحيدا وهو الفصل 71 الذي جاء فيه ” تمارس المجالس البلدية والمجالس الجهوية والهياكل التي يمنحها القانون صفة الجماعة المحلية المصالحالمحلية حسبما يضبطه القانون ” و قد ظل الأمر على ماهو عليه في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي ( 1987 – 2011 ) أين لم تحدث أي تغييرات جوهرية في الشأن المحلي بل ظل هذا الفصل الدستوري يتيما و لم تصدر أي قوانين أخرى لمزيد تنظيم عمل المجالس البلدية الشيء الذي ساهم في ضعف مردود البلديات و عدم قدرتها على الإصلاح من خلال عجزها عن اتخاذ القرارات المصيرية و ظلت الجماعات المحلية تعاني من قصور في شتي المجالات و خاصة من حيث التمويل …
كل هذه الأسباب و غيرها ساهمت بشكل أو بآخر في تردي الأوضاع السياسية ، الاقتصادية و خاصة الاجتماعية الشيء الذي أدى إلى حالة احتقان واسعة عمت البلاد منذ 17 ديسمبر 2010 إلى غاية 14 جانفي 2011 أدت إلى تغير نظام الحكم في تونس و دخلت البلاد في مرحلة جديدة و هي مرحلة الديمقراطية الناشئة و تعالت الأصوات المنادية بمزيد تدعيم اللامركزية وتحقيق التنمية الجهوية وتقليص الهوة بينالجهات ومن ورائها تحقيق التنمية الوطنية و فعلا صدر دستور الجمهورية الثانية في 27 جانفي 2014 متجاوزا المشرع التأسيسي بذلك نقائص الدستور القديم من خلال تخصيصه لاثني عشر فصلا للسلطة المحلية ( الفصول من 131 الى 142 ) و هو ما ساهم في تدعيم اللامركزية في تونس بشكل واضح .
كما لم يقف المشرع عند هذا الحد بل واصل عمله من خلال سعيه المتواصل لإرساء الهياكل الفاعلة في اللامركزية ونقصد هنا إصداره لمجلة قانونية جديدة ” مجلة الجماعات المحلية ” بمقتضي القانون الأساسي عـــدد 29 لسنة 2018 و المؤرخ في 09 مــــاي 2018 و الذي تضمن 400 فصل تقريبا .
و تقتضي الإحاطة الدقيقة بجوانب هذا الموضوع تحليل كل ما ورد من إضافة صلب هذه المجلة القانونية الجديدة .
إن المتأمل في العدد الكبير للفصول المتضمنة صلب مجلة الجماعات المحلية يلاحظ عناية المشرع الفائقة باللامركزية بوجه عام و حرصه الشديد على عمل البلديات على وجه الخصوص و ذلك من خلال إسناده لجملة من الصلاحيات ، التي تفوق أحيانا و في حالات خاصة الصلاحيات الموكولة للهياكل المركزية ، و الواردة بالقسم الثالث ” في صلاحيات الجماعات المحلية ” ( الفصول من 13 إلى 24 ) و يمكن تفسير هذا التمشي الذي انتهجه المشرع بما تكتسيه البلديات من طابع خاص و هو طابع ” القرب ” من المواطن إذ أصبحت البلديات بفضل هذه المجلة و غيرها من القوانين الأخرى تغطي كامل تراب الجمهورية و هو ماساهم في هذا القرب بين المواطن و الإدارة بوجه عام .
بالإضافة إلى جملة الصلاحيات الموكولة للبلديات اعترف المشرع بالشخصية القانونية للجماعات المحلية والإستقلالية المالية إذ جاء بالفصل 132 من الدستور ” تتمتع الجماعات المحلية بالشخصية القانونية، وبالاستقلالية الإدارية والمالية ” و هو ما يعزز استقلالية الجمعات المحلية بوجه عام و هو مـــا يمنح الجماعات المحلية أيضا القدرة على ممارسة كل التصرفات القانونية، و ادارة شؤونها المحلية باستقلالية عن الدولة و التصرف في ميزانية خاصة بها منفصلة عن الميزانية العامة للدولة .
و بمزيد التعمق في الفصول القانونية للمجلة الجماعات المحلية نلاحظ منح القانون الجديد لصلاحيات فعلية لأعضاء الجماعات المحلية و ذلك من خلال التنصيص الصريح على توزيع اختصاص كل الأطراف المتداخلة في الشأن المحلى على عكس دستور 1959 الذي لم يتضمن أي من هذه التنصيصاتالهامة .
نفس الشيء بالنسبة للتمويلات التي تتلقاها البلديات فبالرغم من وضوح عبارات الفصل 65 من الدستور الذي يأكد على دور الدولة دون غيرها في التكفّل بمصدر التمويل الأوّل إلا أنه يمكن للبلديات التمتع بمصادر أخري للتمويل مصدره الموارد الذاتية للدولة إلى جانب وجود صندوق لدعم اللامركزية وآليات للتعديل والتوازن بين الجهات حسب ما ورد بالباب الرابع الوارد تحت عنوان ” في النظام المالي للجماعات المحلية ” و هو ما يعكس أهمية الموارد المالية للجماعات المحلية في خدمة الجهة .
كما مكن القانون الجديد أعضاء الجماعات المحلية من العمل بأريحية كبيرة و في إطار القانون من خلال إرساء المراقبة اللاحقة حسب الفصل 138 من الدستور و ذلك على عكس ما كان معمول به قبل صدور المجلة إذ كانت المراقبة سابقة من طرف والي الجهة و لاحقة ولكن ينبغي التأكيد على أن هذه الاستقلالية و المراقبة اللاحقة على أعمال الجماعات المحلية لا تعني استقلالية الجماعات المحلّية بصفة تامة ، أي لا يمكن أن تتحوّل في أي حالٍ من الأحوال إلى استقلالٍ يهدّد وحدة الدولة و كيانها .
كما إستعدت السلطة التنفيذية ممثلة في الحكومة لتركيز السلطة المحلية في البلاد من إخلال إنشاء أول وزارة تهتم بالشأن المحلي بعد أن كانت الجماعات المحلية تتبع إداريا وزارة الداخلية إذ بمجرد القيام بالتحوير الوزاري يوم 6 جانفي 2016 أخدلت تعديلات على الحكومة سمي بمقتضاها السيد يوسف الشاهد كأول وزير للشؤون المحلية في ذلك الوقت .
و نظرا لأهمية الجماعات المحلية و البلديات في خدمة الجهات و النهوض بها ، جرت أول انتخابات بلدية في تونس بعد الثورة سنة 2018وهي أول حلقة ضمن سلسة من الانتخابات تهدف إلى تفعيل الباب السابع من دستور 2014 المتعلّق باللامركزية، والذي وضع أسس السلطة المحليّةبعد أن أجلت هذه الإنتخابات لعدة مرات إذ كان من المقرر القيام بهذه الانتخابات في 30 أكتوبر 2016، ثم أجلت لـيوم 26 مارس 2017، ثم أجلت مرة ثانية ليوم 17 ديسمبر 2017، وتم الإتفاق من بعد على إجرائها في 25 مارس 2018، ولكن في النهاية، تم الاتفاق على تاريخ 6 ماي 2018 للاقتراع العام، على أن يكون تصويت العسكريين والأمنيين يوم 29 أفريل و هو ما شكل سابقة في تاريخ تونس بعد السماح للأمنين و العسكريين في المشاركة في هذه الانتخابات .
و لمزيدإضفاء الشفافية على نتائج الانتخابات أوكلت مهمة الاشرف الكلي على الانتخابات لهيكل مستقل يسمي ” الهيئة العليا المستقلة للانتخابات ” و قد شهد العالم بأسره على نجاح التجربة الديمقراطية في تونس بالرغم من بعض العراقيل إذ أصدرت وزارة الخارجية الفرنسية بيانا حَيَّت فيه إقامة أول انتخابات بلدية حرة في تونس، والتي اعتبرتها تمثل «مرحلة جديدة في تجذر الديمقراطية» على الصعيد المحلي كما هنأت الولايات المتحدة تونس على أول انتخابات بلدية حرة في البلاد، والتي تمثل «خطوة مهمة في ترسيخ ديمقراطيتها». وعبرت من جهة أخرى عن مواصلة الولايات المتحدة دعم تونس.
وقد أفرزت نظام الاقتراع المُعتمد في الانتخابات البلدية مجالس بلدية فسيفسائية لا أحد يملك بها الأغلبية المُطلقة الشيء الذي ألقى بضلاله على عمل المجالس البلدية في وقت لاحق و تواتر الاستقالات الشيء الذي خلق مناخ متوتر من العمل أحيانا .
و على كل حال ما يمكن أن ستنتجه بعد مرور أكثر من سنتين على تنظيم أول انتخابات بلدية يمكن القول أننا بحاجة ماسة لتغيير النظام الانتخابي في تونس حتي لا نبقي في حلقة من الفراغ و حتى يمكن العمل بجدية و أريحية أكثرأي أنه لا يمكن ، في نظرنا ، تصور مستقبل زاهر و واعد للشأن المحلي في تونس و ذلك نظرا للتواتر الاستقالات التي أصبحت تعسف بالمجالس البلدية من جهة و عدم قدرة أغلب المجالس البلدية على آداء عملها على أكمل وجه بسب عدم توافق أعضائها أحيانا و هو ما انعكس سلبا على أغلب الجهات و خيب آمال الناخبين إذ تشير أغلب الإحصائيات أن الواقع البلدي في تونس لم يرتقي إلى طموحات المواطنين و أن تجربة الحكم المحلى أصبحت مهددة من أي وقت مضي .
لــــــذا يجب على الطبقة السياسية الممثلة داخل مجل نواب الشعب إعادة النظر في كل ما يتعلق بالشأن المحلي و ذلك بعد القيام بدراسة عميقة للمرحلة السابقة حتي لا يقع الرجوع إلى ما كانت عليه تونس قبل الثورة ، لذا و بعبارة أخرىتتطلب اللامركزية كي تنجح قدراً هائلاً من الاستعدادات، وأيضاً درجة من الظروف المؤسسية والسايكولوجية. وهنا، الشرط المُسبق واللازم هو توافر الإرادة والرؤية السياسيين، خاصة .


المراجع المعتمدة في صياغة هذا المقال
• عواطف إسماعيل ، مذكرة لنيل شهادة الماجستير المهني في قانون الجماعات المحلية ” مراقب المصاريف العمومية ونفقات الجماعات المحلية ” السنة الجامعية 2015 – 2016
• العميد لطفي طرشونة ،” التجربة التونسية في إرساء اللامركزية منذ عام 2014 “، مقال الكتروني صادر بموقع مبادرة الإصلاح العربي ، 21 جويلية 2019
• أسماء نويرة ،” الانتخابات البلدية في تونس: ترسيخ للممارسات الديمقراطية” ، مقال الكتروني صادر بموقع مبادرة الإصلاح العربي ، 12جويلية2018.
• سارة يركيسو مروان المعشّر ، ” اللامركزية في تونس: تعزيز المناطق، وتمكين الشعب ” ، موقع كارينغي للشرق الأوسط ، 11 جوان 2018 .
• عدنان بوعصيدة،”المجالس البلدية … و تجربة الحكم المحلي المهددة” ، مقال صادر بجريدة الصباح في 24 أفريل 2020